تستغلّ إيران الحرب الإسرائيلية الأخيرة على غزة لتحقيق أجندتها الإقليمية الطويلة الأمد في المنطقة العربية، فهل يمكن ردعها من دون توسيع رقعة الصراع الحالي؟

للإجابة على هذا السؤل، يجب عليا استعراض الأحداث الأخيرة، فيؤكّد استهداف جنود أمريكيين متمركزين قرب الحدود الأردنية السورية بطائرة مسيّرة ، والضربات الانتقامية التي شنّتها واشنطن، على زيادة خطر احتمال حدوث تصعيد كبير بين الولايات المتحدة وإيران قد يورّط المنطقة بأكملها، وشهدت الأشهر الأخيرة ضربات متبادلة بين واشنطن وطهران حيث نفّذت إيران هجمات مباشرة أو غير مباشرة ضد عناصر أمريكيين أو جهات موالية للولايات المتحدة، بما في ذلك ما لا يقل عن 160 هجوماً ضد القوات الأمريكية في العراق وسوريا شنّتها ميليشيات مدعومة من طهران. في المقابل، استُهدف عدد من قادة الميليشيات الإيرانية أو المدعومة من إيران في لبنان وسوريا والعراق، قُتل بعضهم على يد إسرائيل.

يلوح في الأفق خطر اندلاع حرب إقليمية على خلفية أحداث 7 تشرين أول وهجوم إسرائيل على الفصائل الفلسطينية بغزة، ثم انضمام حزب الله إلى المعركة على الحدود اللبنانية، والتي تصاعدت مؤخرا في اطار الرد على الاغارات الإسرائيلية داخل لبنان وسوريا ثم وصلت إلى ذروتها بعد استهداف القنصلية الإيرانية بدمشق والرد الإيراني عليها في نيسان الماضي، وكانت الولايات المتحدة أرسلت منذ البداية حاملات طائرات بحرية إلى شرق البحر الأبيض المتوسط، و كان هذا الخطر حاضرا مذ كثّف الحوثيون المتمركزون في اليمن -الذين تلّقوا دعماً مادياً كبيراً من إيران- هجماتهم ضدّ السفن التجارية في البحر الأحمر بدءاً من شهر كانون اول من العام الماضي إلى جانب هجومٍ إيراني جريء على أربيل في كردستان العراق استهدف منطقةً سكنيّة وأسفرت عن مقتل رجل أعمال بارز وابنته البالغة من العمر 11 شهراً.

استغلال إيران للصراع في غزة


من الواضح أنّ الجرأة تغمر النظام الإيراني في خضم الصراع الذي تدور رحاه في قطاع غزة. في الواقع، تستمتع طهران بتعرّض الحكومات والمؤسسات الغربية للهجوم بسبب فشلها في إنهاء الحرب على غزّة، وتعتقد أنّ إدارة بادين لا ترغب في صراع مع طهران في عام الانتخابات من هذا المنطلق، ترى إيران فرصة لتوسيع نفوذها الإقليمي فتستغلّ الحرب في غزة، تماماً كما فعلت وبتداعيات كبيرة ودامية خلال الحروب الأهلية في سوريا والعراق واليمن.
يصعب التصوّر أنّ إيران لم يكن لها يد في هجوم 7 تشرين أول، فإنّ دعمها العملياتي والمادي الكبير لحماس منذ عقود يجعلها، على الأقل، متواطئة في إتاحة الهجوم الذي أثار الحرب الأخيرة. وتتعدّد الأسباب التي تدفع إيران لتشجيع هكذا عمليّة وتسهيلها، منها عرقلة عمليّة التطبيع بين المملكة العربية السعودية وإسرائيل التي اكتسبت زخماً كبيراً في الأشهر التي سبقت الحرب، ومحاولة تقويض اتفاقات التطبيع القائمة بين إسرائيل والإمارات العربية المتحدة والبحرين والمغرب. بالإضافة إلى ذلك، قدّم الصراع في غزة ساحةً لوكلاء إيران الإقليميين للانخراط عسكرياً ضدّ إسرائيل والولايات المتحدة ولتعزيز صورتهم في دول الطوق واليمن والعراق.

استعراض القوة الإيرانية

وأدّت هذه الهجمات مجتمعةً إلى تضخيم استعراض إيران لقوتها في الشرق الأوسط وفي الوقت نفسه امتحان النفوذ الغربي في المنطقة وإضعافه وزعزعة الوضع الأمني الإقليمي، تقدّم إيران نفسها علنياً كقوةٍ إقليمية تتصرّف دفاعاً عن الفلسطينيين في ظلّ استمرار الحرب في قطاع غزة، لذا تُصوّر إيران أفعالها كما تُمليها الحرب، وعليه، من المفترض أن توعز وكلاءها بتهدئة التوترات الحالية ودفع المنطقة باتجاه السلام والاستقرار ما إن ينتهي الصراع في غزة.
إلّا أنّه على أرض الواقع، تتناقض هذه الصورة مع إستراتيجية النظام الإيراني الإقليمية الشاملة التي تقضي منذ اعتمادها في خلال ثورة العام 1979 بإنشاء نظامٍ إقليمي جديد مهيمن يكون العرب فيه مرؤوسين والولايات المتحدة خارج الصورة، و سبقت الهجماتُ التي شنّتها إيران وشبكتها من الميليشيات ضد كل من الأهداف الغربية والحليفة – بما فيها في المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة وكردستان العراق وسوريا واليمن – الصراعَ في غزة. على سبيل المثال، أدّت عرقلة الحوثيين للشحن العالمي في البحر الأحمر إلى تشكيل قوةٍ متعدّدة الجنسيات تقوم بدوريات في تلك المياه منذ منتصف العام 2022.

كما وأنّ الهجوم على أربيل ليس حادثاً منفرداً. فقد شنّ النظام الإيراني هجوماً صاروخياً على منطقة سكنية كردية في مارس من العام الماضي، في أعقاب هجمات شنّتها الميليشيات الموالية لإيران ضد مناطق سكنية في فبراير 2021، وعلى مدى أعوام متعدّدة، هاجمت هذه المجموعات قواعد التحالف الذي تقوده الولايات المتحدة عبر العراق وسوريا في إطار جهود منسّقة تهدف إلى طرد القوات الأمريكية من كلا البلدين، والتي مثّلت ركناً أساسياً من سياسة طهران الخارجية منذ تسلّم رجال الدين مقاليد السلطة قبل أكثر من أربعة عقود.

تداعيات إستراتيجية إيران الإقليمية

تشير الضربات الأمريكية الأخيرة على مجموعات وكيلة لإيران في العراق وسوريا إلى مخاطرة إيران بإثارة رد غربي أقوى من شأنه زيادة احتمال اندلاع حرب إقليمية تتكبّد إيران فيها خسائر كبيرة أكثر مما حصل بالقنصلية والردود المتبادلة بين طهران وتل ابيب، ويعني ذلك ضربات محتملة على أهداف داخل إيران نفسها يزداد الترويج لها في واشنطن وعواصم غربية أخرى، فيمكن ان يرى صناع القرار الغربيون في مرحلةٍ إلى الاعتقاد أنّ حملةً عسكرية أكثر شراسةً على إيران وحلفائها من شأنها تُغيّر حسابات صناع القرار الإيرانيين.
رغم أنّ الغرب كان يرفض إشعال صراعٍ كبير مع إيران، إلّا أنّ سياسات طهران الإقليمية تُهدّد بتحويل حرب مع الغرب إلى نبوءةٍ تحقّق نفسها. حتى الآن، كانت مقاربة إيران العامة إزاء منافستها مع الولايات المتحدة تقضي بجعل وكلائها يقاتلون عنها ويتحمّلون الردود الانتقاميّة، فتستفيد طهران من النتيجة بخسائر محدودة وبدون مواجهة مباشرة، بيد أنّ الخطاب السائد في الأوساط السياسية الغربية يقول بأنّ هذه المجموعات – أي الحوثيين في اليمن وحزب الله في لبنان وقوة الحشد الشعبي في العراق – لا يمكن تمييزها عن النظام في إيران، بالتالي، من المرجّح أن يُنسب سلوكها بشكلٍ متزايد إلى إيران.
و يمكن أن يحدث خطأ في الحسابات من الجانبين، وتتطلّب التهدئة أن تراجع إيران سياساتها خاصة بعد مقتل إبراهيم رئيسي بحادث المروحية في 19 أيار الماضي، بينما يتجنّب الغرب الانجرار إلى حربٍ معها بسبب اتساع نطاق الحملة ضد المجموعات الوكيلة لإيران وقصرها على غارات إسرائيلية في سوريا ولبنان مع استيعاب القذائف التي تسقط شمال الأراضي المحتلة، ويعني ذلك على أرض الواقع أنّه على الولايات المتحدة وحلفائها إيجاد طريقة للتعامل مع التهديد المتأتّي من الحوثيين في اليمن أو من قوات الحشد الشعبي في العراق، من دون استهداف إيران بالضرورة بشكلٍ مباشر وربما إقحام المنطقة في صراعٍ شاملٍ نتيجةً لذلك.


وهنا لا بد للقادة الغربيين من تحدّد خطوطها الحُمُر بوضوح حتى لا تسيء إيران فهم أعمالها أو تستغلها، وحتى يتضاءل احتمال وقوع أي من الطرفين في خطأ في الحسابات، بعبارةٍ أخرى، يجب على الحكومات الغربية أن توضّح الحدّ الذي يمكن أن تتحمّله في خسارة الأرواح وعرقلة التجارة الدولية والاستفزازات من إيران أو وكلائها قبل بلوغ عتبة الضربة الانتقامية على إيران، ومن شأن ذلك أن يعزز الجهود الدبلوماسية الرامية إلى ردع إيران ووكلائها وتهدئة التوترات والتوصّل إلى تسويةٍ من خلال المفاوضات.

والأهم من ذلك هو أنّ التصعيد الحالي يُسلّط الضوء على الحاجة إلى خط اتصال مفتوح يسمح للطرفين بتجنّب سوء الفهم الذي قد يجرّهما إلى صراعٍ أكبر. لكن من الأساسي ألّا تستغلّ إيران ذلك من أجل تحقيق مصالحها بالوكالة. لقد عوّلت إيران في خلال العقد الماضي على رفض الغرب المستمرّ من فتح حربٍ في المنطقة على مصراعيها من أجل توسيع قدرات الجهات الوكيلة لها، من حيث العديد والموارد. وقد تمكّنت هذه الجهات من إبقاء هيمنتها على المشهد السياسي المحلّي في دُولها، ما عزّز سيطرة إيران ونفوذها على الساحة الجيوسياسية، ومن غير المتوقع أن يؤثر حادث مقتل رئيسها ووزير الخارجية على سياستها نظرا لوجود سلطة أعلى تتمثل بالمرشد الأعلى.

وأخيرا، يجب ألّا يُسمَح لإيران السير في كلا الاتجاهين؛ أي أن تكون قادرة على اللجوء إلى الجهود الدبلوماسية لاستدراك رد عسكري على الأعمال التي تشنّها، وفي الوقت نفسه أن تمكّن وكلاءها الإقليميين من تنفيذ أجندتهم الجماعية الخبيثة في البلدان العربية بحجة مواجهة إسرائيل عدوة العرب أيضا، وإلّا، لن يكون من الممكن ردع الزخم المتّجه نحو إشعال حرب إقليمية.


عبدالله الحديدي