يظهر قصور الإعلام الرسمي السوري بوضوح لأي مراقب دون الحاجة إلى جهد كبير، إذ جعلته الحكومة السورية المؤقتة سلاحًا معطلاً، تاركةً المجال لوسائل الإعلام العربية ومرتادي مواقع التواصل الاجتماعي، الذين يملؤون الفراغ بالشائعات، وخطاب الكراهية، والتكهنات، مما يزيد الارتباك الشعبي ويعمّق الفجوة بين الحكومة والمجتمع.
ما يثير الاستغراب هو أن الحكومة الجديدة، رغم التحديات الضخمة التي تواجهها، لم تدرك بعد أهمية وجود رواية رسمية واضحة ومنظمة، بدلًا من بيانات متفرقة لا تصل إلى الناس ولا تترك أثرًا، فغياب الإعلام الرسمي جعل القنوات العربية و مواقع التواصل المصدر الأساسي للمعلومات التي يتلقفها الشعب السوري، وعندما نتحدث عن رواية والا نقصد تكرار قصة بعينها مثل قصة المعركة التي جرت في حواضر كبرى دون خروج السكان” التي كررها الرئيس أحمد الشرع في وسائل إعلام عربية وغربية.
في وقت تحتاج فيه سوريا إلى خطاب موحد يطمئن مواطنيها ويوجههم نحو المستقبل، اختارت الحكومة الصمت، وكأنها غير معنية بمعركة الرأي العام. حتى الزيارات المهمة للرئيس الشرع إلى إدلب وحلب و لقائه بسكان المخيمات وعفرين وسماع شكاويهم، وردت في الإعلام الرسمي بأسلوب بروتوكولي روتيني، في حين ذهبت الإدارة الذاتية الكردية في اليوم ذاته إلى تنظيم مسيرات لأنصارها مناهضة لتركيا، مطالبةً بالإفراج عن زعيم حزب العمال الكردستاني عبد الله أوجلان في مدن الحسكة وديريك والطبقة وعين العرب، هذا الموقف يُعد تحديًا مباشرًا لدمشق، التي أكدت مرارًا لأنقرة أن سوريا لن تكون منصة لمهاجمتها، ومع ذلك لم يصدر أي احتجاج رسمي، لا عبر تصريح ولا عبر مؤتمر صحفي، كما لا يوجد ناطق رسمي يحافظ على ظهور إعلامي منتظم لشرح التحديات الاقتصادية أو الموقف من الملفات الكبرى، أو للرد على القوى التي تسعى إلى فرض وقائع جديدة على الأرض سواء جنوب البلاد أو شرقها.
في المقابل، تواصل “قسد” تحدي الحكومة المركزية، من رفض إلقاء السلاح إلى محاولات للحفاظ على “الحكم الذاتي” للجزيرة السورية، بينما تستمر الحكومة بتجاهل أهمية مخاطبة السوريين في تلك المناطق، بما فيهم عناصر “قسد”، فكيف يمكن إقناعهم بأن الدولة هي الملاذ الطبيعي لهم. إذا لم يكن هناك خطاب رسمي عقلاني بعيدا عن الخطابات العنصرية التحريضية والإقصائية من أنصار الفريقين على الفضاء الافتراضي الذي يقوده المحللون على الشاشات غير السورية و الفيسبوكيين من الجانبين، وهل يمكن استعادة الثقة إذا كان الإعلام الرسمي لا يقوم سوى ببث بيانات مقتضبة لا تفسر شيئًا ولا تقدم رؤية واضحة؟
وعلى المستوى الوطني، كيف يمكن مطالبة السوريين بالصبر على الأوضاع الاقتصادية الصعبة دون تقديم خطة واضحة لتجاوز هذه المرحلة؟ رغم أن الشعب يدرك حجم المعوقات، من العقوبات الدولية إلى التدخلات الخارجية وعدم القدرة على استثمار الموارد الطبيعية بسبب الانقسام، لكن الفرق بين حكومة قوية وأخرى ضعيفة لا يكمن فقط في قدرتها على اتخاذ قرارات اقتصادية أو أمنية، بل في قدرتها على إقناع المواطنين بجدواها، والإعلام هو الأداة الأهم لتحقيق ذلك.
إذن من الواجب بناء رأي عام سوري موحد يتجاوز حتى الواقع التقسيمي الناتج عن التدخلات الخارجية تدعم فصائل أو أحزاب بعينها -كلها- تحت ذريعة واحدة هي “محاربة الإرهاب”، فكان يجب على وزارة الاعلام تفعيل التلفزيون السوري للقول بأن دمشق هي من يحارب الإرهاب انطلاقا من “شرعيتها الثورية” ثم بعد كسب “الشعب” انطلاقا من إرادة الشعب السوري المصر على وحدة تراب الوطن.
في ظل هذا الغياب الإعلامي الرسمي، أصبحت الساحة مرتعًا للشائعات، ونظريات التخويف، والتفسيرات المتضاربة لأصحاب الأهواء والمشاريع، كل يوم تظهر قصص جديدة عن الوضع المعيشي، عن مستقبل البلد، عن قرارات الحكومة، وغالبًا ما تكون هذه القصص مختلقة أو مضخمة ( عودة ماهر الأسد، زيادة الرواتب أربعة أضعاف، مليارات الدولار تشحن من روسيا) وعندما لا يكون هناك رد رسمي سريع، تتحول هذه الشائعات إلى “حقائق” في أذهان الناس تساهم بإرباك الوضع الهش أصلا.
دور الإعلام كان حاسمًا في معركة سقوط نظام بشار الأسد، وسيكون حاسمًا في معركة توحيد البلاد خلال الفترة الانتقالية، الإعلام ليس ترفيها أو دعاية، بل هو جزء من الأمن القومي، وأحد أدوات تثبيت الاستقرار وإعادة بناء الثقة المجتمع، وإذا لم تدرك الحكومة ذلك بسرعة، فإنها لن تخسر فقط المعركة الإعلامية، بل ستجد نفسها في مواجهة سخط شعبي متزايد، مدفوعٍ بالإحباط وفقدان ثقة تغذيها آلات إعلامية معادية لمشروع سوريا الجديدة، فالواجب أن يأخذ وزير الإعلام دوره بعرض إيجاز يومي عن أعمال الحكومة أو ناطق لبق يوفر مصدرًا رسميًا للمعلومات، قادر على تبديد الشائعات وتوحيد الخطاب الوطني، لا شخصية جدلية كالمتحدث باسم اللجنة التحضيرية لمؤتمر الحوار الوطني حسن الدغيم محسوب على طرف معين.
اليوم، المطلوب ليس مجرد إعادة تشغيل الإعلام الرسمي، بل بناء استراتيجية إعلامية حقيقية، قائمة على الشفافية والتواصل المباشر، لتبديد الضباب الكثيف الذي يملأ المشهد السوري، ويحجب رؤية السوريين ممن لا يملكون مصادر خاصة في القيادة كصحفيي القنوات العربية والأجنبية ولا يحضرون المؤتمرات الدولية ليطلعوا على ما يحاك في أروقتها.