تُعدُّ الجزيرة السورية نموذجًا مصغَّرًا لتنوُّع سوريا الثقافي والاجتماعي، إذ تحتضن مكونات عربية وكردية وسريانية وشيشانية وأرمنية وغيرها، ما يجعل العدالة والمساواة بين هذه المكونات حجر الزاوية لاستقرار المنطقة وازدهارها. ومع ذلك، وفي ظل الصراعات والتحديات السياسية الراهنة، إذا تجاهلنا إمكانية تحقيق توازن عادل بين الحقوق المحلية والهوية الوطنية الجامعة، فلا يمكن تجاهل المطالبة بحقوق متساوية للمجتمع العربي كما للمجتمع الكردي في الجزيرة السورية نظرا لاتساع مساحات انتشارهما جنبا إلى جنب.
هذا ما ينبغي السعي لتحقيقه! لكنَّ العديد من متصدِّري المشهد من العرب يتركون مشاكل مجتمعهم ويركِّزون على قضايا المجتمع الكردي (مثل أحزابه، تعداده، نسبته من سكان سوريا). والحقيقة أن هذه الأمور لا يمتلكها عرب الجزيرة لأنفسهم حتى يمنعوها عن غيرهم أو يمنحوها لهم، أو حتى ينتقدوها.
الأولى أن يطالبوا لأنفسهم من دمشق بمطالب المجتمع الكردي عينها، لا زيادة ولا نقصان!
- الثقافة: لديهم ثقافة خاصة.
- الجغرافيا: لديهم إقليم جغرافي محدد.
- الثروات: مناطقهم غنية بالموارد.
- التهميش: يعانون التهميش أكثر من أي مجتمع سوري آخر.
الجزيرة … إرث من التنوع
يُعتبر النقاش حول تسمية مناطق الجزيرة السورية بأنها “كردية” أو “عربية” مسألة سياسية وجدلية تتجاوز الجغرافيا إلى مفاهيم الحقوق والخصوصيات الثقافية والاجتماعية. لكن الأهم من هذا التصنيف هو تحقيق المساواة بين جميع القوميات والمكونات.
قبل المطالبة بأي نظام حكم يستند إلى شكل الدولة (مركزي، فيدرالي، أو غيره)، يجب تحديد نطاق المناطق التي تُطلب لها هذه الأنظمة، مع ترك القرار للشعب لتقرير مصيره دون مصادرة إرادته.
لهذا، فإن التركيز على عدد السكان من هذا المجتمع أو ذاك ليس مهمًّا بقدر أهمية ضمان حق كل إنسان في أن يعيش حُرًّا في قريته وبلدته ومنطقته. فمن غير المعقول أن يسعى أحد المجتمعات لنيل حقوقٍ يحرم الآخرين منها!
تشير الدراسات التاريخية والجغرافية إلى أن منطقة شمال الجزيرة السورية (الجزيرة العليا) كانت ولا تزال موطنًا لمكونات متنوعة منذ تأسيس سوريا في مطلع القرن العشرين، حيث عاش الكرد والعرب والسريان والأرمن وغيرهم في تناغم. وعلى الرغم من هذا التنوع، فإن خرائط التوزع السكاني تظهر تداخلًا كبيرًا بين القرى والبلدات الكردية والعربية، ما يجعل من المستحيل تصنيف المنطقة حصريًا تحت مسمى قومي واحد، حتى في الجزيرة العليا. ومع ذلك، فإن المناطق ذات الأغلبية الواضحة لأي مكون ينبغي أن تُضمَّ للوحدة الإدارية الخاصة به، مع التأكيد على أنها ستظل ضمن الدولة السورية.
العدالة في الحقوق والإدارة
إذا كان من حق المكون الكردي المطالبة بحكم ذاتي أو إدارة محلية لبلداته وقراه ومناطق توزعها، فإن المبدأ ذاته ينطبق على المكون العربي. العدالة تتطلب الاعتراف بحقوق الجميع بالتساوي فلا يجوز تجاهل أو إظالة مجموعة من القرى لمجتمع ما لتحقيق وحدة جغرافية لمجتمع آخر وهي ليست ضرورية، بحيث يتمكن كل طرف من إدارة شؤونه المحلية دون إقصاء أو تهميش.
القضية ليست قضية أكثرية أو أقلية كما يُروج لها، بل تتعلق بتوزيع مناطق كل مجتمع في الجزيرة والمساحة التي ينتشر فيها. فربما تكون “عامودا” أكثر سكانًا، ونجد أن مساحة “الشدادي” أكبر بكثير. لذا، فإن تسليم كل منطقة لأهلها و احترام الخصوصيات وحقوق المجتمعات ضرورة ملحَّة خلال المرحلة الانتقالية لتحقيق العدالة دون مشاكل في المستقبل القريب.
بناء الثقة وتعديل الخطاب
تشير الدراسات العالمية إلى أن تحقيق العدالة في مناطق النزاع يتطلب نظام حكم لا مركزي يتيح للمجتمعات إدارة شؤونها المحلية دون إقصاء. كما تُظهر تقارير التنمية البشرية للأمم المتحدة أن التهميش السياسي والاقتصادي يؤدي إلى نزاعات مستمرة تُعيق الاستقرار، أي أن هدف اللجوء لهذا الحل هو منع النزاعات فلا يجب أن يكون اختياره النموذج سببا جديدا للنزاعات بين المجتمعات المحلية.
خير مثال على أهمية احترام التنوع ما حدث في السويداء، حيث طالبت دمشق بسحب قواتها حتى تُظهر حسن نيتها. وعليه، فإن تفعيل نظام إداري حر شامل يراعي تنوع الجزيرة السورية يجب أن يكون مطلب المجتمع العربي أيضًا، بشرط تأسيس قوى سياسية واجتماعية واعية تقوده.
يجب أن نتجاوز ما يكرره بعض متصدري المشهد منذ عقود حول الأكثرية العددية، التي لم تخدم العرب يوماً لأن مجتمعهم ضعيف تنظيمياً ولا يعتمد سوى على المؤسسات القديمة مثل العشيرة و القبيلة التي تصبح عامل انقسام مع أول خلاف. وربما هي أول عوامل الانقسام في المجتمع العربي الذي كان مقسماً بين داعمين للثورة، داعمين لنظام الأسد، وداعمين لقسد. اليوم، جرى تحييد الأسد كعامل انقسام، لكن الأمر يحتاج إلى حملة مصالحة محلية لرأب الصدع المجتمعي.
إن الحل الأمثل يكمن في إيجاد إطار يُوازن بين الخصوصيات المحلية والحقوق الوطنية العامة، ويمنع تغليب مجتمع على آخر بقوة السلطة أو بالاستقواء بالخارج. المطالبة بالحقوق ليست امتيازًا لقومية دون أخرى، بل حقًّا مشتركًا لكل من يعيش على هذه الأرض السورية.
إذا تمكَّن سكان الجزيرة السورية من الاتفاق على حقوق متساوية للجميع دون الإضرار بجيرانهم، يمكن أن تتوحَّد الجزيرة اجتماعيًّا بجهود ذاتية ودون الحاجة لاستخدام القوة العسكرية أو إلى تدخل خارجي يعمل على توسيع الشقاق لتبرير وجوده على الأرض. هذا النهج لا يُعزِّز الاستقرار فحسب، بل يُمهِّد الطريق لنموذج إداري رائد في إدارة المناطق المتنوعة.