حتى عام 2012، كان اسم أبو محمد الجولاني غريباً على الأوساط السياسية والعسكرية العالمية. في ذلك الوقت، كانت سوريا تمر بمرحلة من التحولات الجذرية، إذ بدأت الاحتجاجات الشعبية السلمية في عام 2011، ثم توسعت الثورة ضد بشار الأسد، قبل أن تتحول إلى صراع دموي مع تصاعد حملة القمع من قبل النظام السوري.
في خضم هذه الفوضى، ظهرت العديد من الجماعات المسلحة إلى جانب الجيش السوري الحر، بعضها ذو طابع محلي ثوري، بينما امتد الآخر إلى نطاق إقليمي ودولي لا يرفع علم الاستقلال السوري. وسط هذه الصراعات، ظهر الجولاني كأحد أبرز القادة العسكريين، مستغلاً الفراغ الأمني والفوضى السائدة، ليبني لنفسه قاعدة شعبية وقيادية متنامية بسبب انضباط عناصر “جبهة النصرة” مقارنة بالفصائل الأخرى رغم رفضه رفع أي راية لا تحمل معنى ديني (راية عمية).
لم يكن الجولاني معروفاً حينها، فقد بقيت هويته مجهولة، والمعلومات حوله قليلة حتى بدأت تظهر تدريجياً تفاصيل سيرته. كان، حتى وقت قريب، مطلوباً من قبل الولايات المتحدة التي عرضت مكافأة قدرها 10 ملايين دولار مقابل معلومات تؤدي إلى القبض عليه، نظراً لمشاركته في هجمات عنيفة استهدفت المدنيين والقوات الدولية. اليوم، أصبح الجولاني أحد أبرز القادة العسكريين في سوريا، ويتصدر المشهد السياسي والعسكري في سوريا والمنطقة باسمه الصريح أحمد حسين الشرع.
القتال في العراق
رغم وجود روايات متضاربة حول نشأة الجولاني، إلا أن المعلومات المتوافرة تشير إلى أنه انخرط في صفوف تنظيم “القاعدة” منذ عام 2003. في تلك الفترة، كان يتابع خطب الداعية محمود قول أغاسي (أبو القعقاع) في حلب، والذي لعب دوراً في تحفيز الشباب العربي للانضمام إلى القتال ضد الاحتلال الأميركي في العراق قبل ان يقتل عام 2007. فكان كان أحمد الشرع ابن الـ21 عاماً من بين المتطوعين الأوائل الذين قطعوا الحدود السورية وانضموا إلى الفصائل العراقية للدفاع عن بغداد ضد الغزاة الأمريكان،يُقال إن الجولاني حسب العديد من المصادر، انضم إلى تنظيم “القاعدة” تحت قيادة أبو مصعب الزرقاوي، ولم يُعرف الكثير بشأن المهام التي كانت يتولاها في تلك الفترة.
في عام 2004، ألقت القوات الأميركية القبض عليه، واحتجز في سجون مختلفة، بما في ذلك سجن أبو غريب ثم تنقل بين السجون من بينها “بوكا”، قبل أن يودع سجن تُشرف عليها السلطات العراقية، خلال فترة احتجازه، تعرّف الجولاني على عدد من الشخصيات المتشددة، وتوطدت علاقاته مع قادة بارزين في “القاعدة”. وفي 2008، أُفرج عنه ليعود إلى الأنشطة الجهادية، وبدأ في العمل ضمن صفوف “الدولة الإسلامية في العراق” بقيادة أبو بكر البغدادي، حيث أسهم في تنسيق العمليات العسكرية في شمال العراق، وخاصة في مدينة الموصل.
الانتقال من العراق إلى سوريا
مع اندلاع الثورة السورية في سوريا عام 2011، كانت التنظيمات المسلحة العراقية تبحث عن فرصة لتوسيع نفوذها عبر الحدود حيث وجدت فيها فرصة سانحة لتوسيع أو نقل نشاطها إلى منطقة أخرى. فأوفد البغدادي الجولاني إلى سوريا لتأسيس فرع جديد لتنظيم “القاعدة”. اتخذت المجموعة مقراً لها في بلدة الشحيل في دير الزور، حيث بدأت في تجنيد المقاتلين وتنفيذ عمليات ضد قوات النظام. في يناير 2012، أعلن الجولاني عن تشكيل “جبهة النصرة لأهل الشام”، داعياً إلى “الجهاد لإسقاط النظام”.
ونجح التنظيم من استقطاب مقاتلين سوريين وأجانب دخلوا البلاد من العراق وتركيا.
وشملت هجمات التنظيم عمليات انتحارية سواء بالمفخخات أو الأحزمة الناسفة، ما جعل لها مكان خاصة في الساحة السورية لأن الفصائل الأخرى بدات تخشاها رغم انها أقل عددا.
وسرعان ما شكل التنظيم شبكة إعلامية تضم مجموعة من المراسلين في العديد من المناطق السورية، وبدأت ببث بيانات وإصدارات عن أنشطة “جبهة النصرة”، من بينها ما يتعلق بمنطقة القلمون، وهي سلسلة جبلية شمال غرب دمشق، حيث نشطت هناك خلية من “جبهة النصرة” بقيادة أبو مالك التلي، المعتقل السابق في سجن صيدنايا الشهير. وكان التلي قد أُفرج عنه من قبل السلطات في دمشق مع بداية الثورة 2011، ما أثار تساؤلات واستغراباً بشأن دوافع ذلك.
تمكنت خلية “التلي” من خطف العديد من الجنود اللبنانيين في عام 2014، ودخلت في مفاوضات مع الجيش اللبناني للإفراج عنهم في صفقة تضمنت خروج شقيقه من سجون سوريا. وفي العام نفسه، عُرف التلي أيضاً خلال أزمة “راهبات معلولا” عندما اختطف عدداً من الراهبات وأطلق سراحهن مقابل صفقة حصل خلالها على مبالغ طائلة. وفي أغسطس 2017، انتقل إلى محافظة إدلب بموجب اتفاق بين “حزب الله” اللبناني و”هيئة تحرير الشام”.
التوسع والصراع مع داعش
ظلت “جبهة النصرة” تتبع “الدولة الإسلامية في العراق” حتى عام 2013، عندما قرر البغدادي دمج التنظيمين تحت مسمى “الدولة الإسلامية في العراق والشام” (داعش). إلا أن الجولاني رفض هذا الدمج لان جبهته كانت مخصصة لـ “نصرة أهل الشام”، وأعلن مبايعته لأمير تنظيم “القاعدة” أيمن الظواهري. أدت هذه الخطوة إلى اندلاع صراع مسلح بين “النصرة” و”داعش” على النفوذ في سوريا، وكانت معركة مركدة جنوب الحسكة، والتي خسر فيها الجولاني 40 قتيلا المعركة الفاصلة التي أخرجت الجزيرة وشرق سوريا من قبضة الجولاني وفتحت المجال امام البغدادي لاحتلال كامل حوض الفرات السوري.
رغم الصراعات الداخلية، استطاعت “جبهة النصرة” أن تصمد وتوسع نفوذها، ولكنها تعرضت لانتقادات واسعة بسبب ممارساتها العنيفة، حيث كانت تنتشر مقاطع تُظهر ممارسات عنيفة لعناصر من التنظيم ضد مدنيين وعسكريين، مثل الإعدام بإطلاق النار مباشرة على الرأس.
وكانت تلك المشاهد تثير الفزع والرعب، مما زاد من القلق بشأن تمدد هذه التنظيمات وما تنتهجه من تشدد وعنف.
الانتقادات والانتهاكات
في السنوات الأخيرة، بدأ الجولاني في فك ارتباطه العلني بـ”القاعدة” بشكل تدريجي في عام 2016. وفي عام 2017، أعلن الجولاني عن تأسيس “هيئة تحرير الشام” بدلاً من “جبهة النصرة” ليقدم نفسه كقوة محلية أكثر اعتدالاً. ورغم تصنيف القوى الدولية له كإرهابي، فإن هيئة تحرير الشام أثبتت أنها كانت جزءاً لا يتجزأ من الجهود الدولية لإضعاف النفوذ الإيراني في سوريا، خصوصاً في المناطق الاستراتيجية في الشمال (حلب وإدلب).
وبقيت الهيئة تتعاون بشكل غير مباشر مع أطراف إقليمية ودولية، في وقت يشهد فيه الوضع السوري تحولا جوهريا، تمثل باسقاط سلطة بشار الأسد والنفوذ الإيراني وحماية المنطقة منها لنحو 50 عاما قادمة كما قال في تصريحاته على قناة العربية السعودية.
مع كل هذا، لا تزال هيئة تحرير الشام تتعرض لانتقادات شديدة بسبب انتهاكات حقوق الإنسان، ومنها الاتهامات بالضلوع بعمليات القمع ضد المعارضين، الاعتقالات التعسفية، والتعذيب في الماضي القريب، ففي كانون اول/ديسمبر 2012، صنّفت وزارة الخارجية الأميركية “جبهة النصرة” كمنظمة “إرهابية” (ويكيبيديا)
وفي مايو 2013، تم تصنيف أبو محمد الجولاني كـ”إرهابي عالمي مُصنَّف بشكل خاص”، وأعلنت الولايات المتحدة حجز ممتلكاته الخاضعة لنطاق سلطتها، ومنع أي مواطن أميركي من التعامل معه (سي إن إن عربي).
في العام نفسه، أدرجت لجنة العقوبات التابعة لمجلس الأمن الدولي الجولاني في قائمة “الإرهابيين المحظورين”، مما أدى إلى تجميد دولي لممتلكاته، ومنعه من السفر، وحظر توريد الأسلحة إليه.
وحملت الولايات المتحدة التنظيم مسؤولية “المجزرة التي راح ضحيتها 20 سورياً في قرية قلب لوزة الدرزية” شمالي البلاد في يونيو 2015.
في عام 2017، عرض برنامج “مكافآت من أجل العدالة” الأميركي مكافأة تصل قيمتها إلى 10 ملايين دولار أمريكي مقابل الإدلاء بأي معلومات متعلقة بالجولاني، والتي فقدت قيمتها اليوم كونه يظهر اليوم باسم أحمد الشرع على رأس السلطة بدمشق..
في تقرير سابق، قالت لجنة التحقيق التابعة للأمم المتحدة بشأن سوريا إن “الهيئة متورطة بعمليات التعذيب والعنف الجنسي والمعاملة اللاإنسانية أو المهينة والاختفاء القسري أو الوفاة أثناء الاحتجاز”، بدءاً من عام 2012. وأشار تقرير عام 2021 إلى أنه “بينما بلغت الحوادث ذروتها في 2014، تم توثيق مستويات مماثلة من الانتهاكات من عام 2013 إلى عام 2019”.
وخلال عام 2024، قمعت “هيئة تحرير الشام” احتجاجات سلمية خرجت في إدلب ضد حكم الهيئة وزعيمها، ويوثق نشطاء ما يقولون إنه انتهاكات في مناطق سيطرتها بالشمال السوري، تشمل خطف واعتقال محامين وكتّاب وصحافيين، وسوء معاملة السجناء، واعتداء على المتظاهرين.
مستقبل الشرع السياسي
مازالت الوفود العربية والأجنبية تصل إلى دمشق للقاء أحمد الشرع، لكنها على ما يبدو تنتظر الضوء الأخضر الأمريكي المتمثل برفع العقوبات عن سوريا، لكن الأمريكيين حددوا وجهة نظرهم عبر حساب السفارة الأمريكية في سوريا، قائلين: التقى مسؤولون أمريكيون مع السلطات المؤقتة في دمشق وأثاروا الحاجة إلى: حماية المواطنين الأمريكيين والتأكد من مصير المواطنين الأمريكيين المختفين، مواصلة القتال ضد داعش، منع إيران من الظهور مرة أخرى في سوريا، تمثيل جميع السوريين بشكل كامل وضمان عملية سياسية شاملة.
تبقى الأسئلة معلقة حول ما إذا كان احمد الشرع (الجولاني) قادرًا على تحويل تنظيمه إلى كيان سياسي معترف به دوليًا.
هل سيظل ماضيه وعلاقاته مع الجماعات المتشددة عبئًا على تطور مستقبلي؟
أم أن التحولات التي أقدم عليها ستسمح له باللعب دور أكبر في مستقبل سوريا السياسي؟