علي عيد





ما زالت آلاف وسائل الإعلام حولنا تضع على واجهاتها المطبوعة والمرئية عبارات تخبرنا بأنها تدافع عن الحرية والرأي، والرأي الآخر.

هل نحن أحرار، وهل هناك صحافة حرة فعلًا؟ ذلك السؤال يحتمل إجابة “نعم” برومانسية، لكن الواقع ربما يشير إلى غير ذلك، بل إلى عكسه، ودون حكم مطلق.

باسم الحرية والاستقلالية، تنشأ صحف وقنوات ومواقع كل يوم، وباسم الحرية ذاتها يوضع الناس في السجون لأنهم خونة، حسب زعم صحافة سجّانيهم.

وحين تدير الحرب رحاها، ينقسم الجمهور بين طرفيها، ولا ينشغل الناس عادة في دوافع انقسام الإعلام وانحيازه، قدر انتقادهم لعدم مجاراته لقضاياهم.

إذًا، هل هناك صحافة حرّة بالفعل، وهل تعبر تلك الصحافة عن وجهات نظرنا، أم أنها صنعت قناعاتنا وكوّنت أفكارنا حتى بتنا نعتقد أنها تدافع عن أفكارنا.

هناك التباس في مفهوم الحرية بين ما نعتقد وما يجب أن نقول على المستوى الفردي، وعند هذا المفهوم نجد أنفسنا غير قادرين على البوح بما نعتقد، ويتجسد ذلك تمامًا في الدعوة التي نتلقاها من الفيلسوف السياسي الفرنسي مونتسكيو بقوله، “تنتهي حريتك عندما تبدأ حرية الآخرين”، وهنا بالذات تجدنا غير أحرار من جهة، وبالمقابل تجدنا مجبرين على التصرف بمسؤولية في حريتنا.

وعلى مستوى الإعلام، وهو خارج إطار التفكير الفردي بطبيعته، تكون الإدارات والكوادر وحدها واعية لمستوى الحرية المتاحة، أو التضليل الذي تمارسه، أو الضغط الذي تتعرض له، وهذا ينطبق على كل إعلام، بدءًا من إعلام الدول التي تحمل شعار الدفاع عن الحريات، انتهاء بتلك التي تحارب الحريات على اعتبارها “مستوردة” أو “مفروضة من الخارج” في الجهة المقابلة.

نختلف في عقائدنا وألواننا وحتى في نوع القهوة التي نفضّلها، لكننا كبشر متفقون ومتمسكون بحريتنا، نريدها خالصة، ويختلف حيالها السياسيون ورجال الاقتصاد والزعماء، ومن ورائهم الإعلام الممول، فهم يريدون لنا حرية تحافظ على الدولة أو الدين أو الشركة ورأس المال.

في الولايات المتحدة مثلًا، ينقسم الرأي حول حرية الصحافة، إذ يعرفها قطب الإعلام روبرت مردوخ، بأنها تتجسد في وجود كثير من الصحف والأشخاص المختلفين الذين يسيطرون عليها، مع وجهات نظر متنوعة.

أما داعية السلام الأمريكي بيت سيغر فيعتبر مجرد امتلاك كثير منها من قبل مردوخ، يعني أنه ليس لدى الأمريكيين قدر كبير من حرية الصحافة، على الرغم من أن حرية التعبير التقليدية متجذرة بقوة في ثقافتهم.

الخلاف بين مردوخ وسيغر يعكس حقائق مهمة حول حرية الصحافة واستقلالها، فالأول يملكها ويشارك عبرها في تدمير سمعة رؤساء أو تنصيبهم، والثاني يفسر خطر حصر ملكيتها بيد رجال المال والنفوذ، حيث تخضع حرية التعبير والصحافة لشروط سياسية واقتصادية.

في العالم العربي مثلًا، انقسم الإعلام حيال “الربيع العربي”، هناك إعلام اعتبره ثورات حقيقية، وإعلام أعطاه وصف “مؤامرة”، وانقسم الشارع بجزء كبير منه وراء هذا الإعلام، لكن أحدًا من هذا الجمهور لم يُتَح له الجلوس على خط الهاتف الواصل بين مسؤولي ذلك الإعلام والتعرف إلى نوع الاتصالات التي يتلقونها، أو ما يمرر لهم من معلومات حول التوجهات العامة حيال القضايا التي يتعامل معها إعلامهم.

لم نسمع أن حكومة قررت يومًا تقديم مليار دولار لتأسيس وسيلة إعلامية يدير رسالتها شعب ما وفق وجهة نظره حيال قضيته، وحصل أن دُفعت مبالغ أكبر بكثير للدفاع عن قضية ذلك الشعب لكن وفق رؤية وإدارة من يدفع، وهذا فرق شاسع.

مع ما سبق، تكون الصحافة حرّة عندما تحاول عرض الحقيقة، ولم تحتوِ دفتاها الحقيقة يومًا، ويجب ألا تدّعي ذلك، إنها في جزئها المضيء تعترف بسعيها وراء الحقيقة، وبجزئها المظلم تدّعي بأنها تقدّم الحقيقة، وتلك الأخيرة كثيرًا ما دفعت الناس إلى الشك، أو ضلّلتهم.

كأفراد، يمنعنا التعدي على حرية الآخرين من قول ما نريد، أما الصحافة فلها موانع مختلفة، ليست المهنية والأخلاقية دائمًا معيارها، وإن كان كذلك في أحيان كثيرة.

كل ما سبق لا يجعلنا نستسلم بأننا مضلَّلون كجمهور، كما لا يمنحنا الحق في تعميم نظرية أن الصحافة كاذبة دائمًا.

في خضم الحروب والصراعات وعبر التاريخ، كتلك التي تشهدها سوريا اليوم، تنشأ على الهوامش صحافة تبدأ رحلتها حاملة شعار الدفاع عن الحقيقة، منها ما يفشل، ومنها ما يتمنّع أمام الضغوط حتى مستوى معيّن، لكن الصحافة التي تقف في المنتصف ليست موجودة كما يدّعي المنظّرون، فانحيازك لنظام أو حزب أو قضية هو انحياز، حتى انحيازك للأخلاق الحميدة هو انحياز.

عندما تغلق الصحافة بابها أمام الشجعان أو الأوغاد فهي إما صحافة شجعان وإما صحافة أوغاد، وهي ليست عادلة بالضرورة، فقد تكون مهنية في معالجة القضايا، لكنها تصبح منحازة حين تفاضل في اختياراتها لضيوفها وقضاياها، ونادرًا ما توجد وسيلة إعلامية لا تفاضل في ذلك.

ينقلون عن جورج كليمنصو، وهو الصحفي الذي أصبح رئيس وزراء فرنسا، قوله قبل مئة عام، إن الصحافة “حبر وورق وحرية”، وأنا أضيف أنها كذب أحيانًا، ودم وضحايا أيضًا، فقد استشهد ومات دون هذه المهنة كثيرون، وهناك من بقي يناضل من أجل حرية الكلمة، رجل هنا أو تجربة صحفية هناك.. وللحديث بقية.

المصدر: عنب بلدي