أوقفت دورية قوات أمنية تابعة لـ”آساييش” الكردية، أحمد العدواني، قرب حاجز الكازية خلال توجهه من بلدة تل حلف الأثرية نحو مدينة رأس العين بالقرب من منابع نهر الخابور شمالي محافظة الحسكة السورية، وطلبت منه إبراز بطاقة هوية أو أي وثيقة تثبت شخصيته، فأعطاهم ورقة من المختار تعرف به وتؤكد أنه لا يملك قيداً في سجلات النفوس، فهو من ضمن شريحة بشرية تُعرف باسم “مكتومي القيد”.
كلام الرجل الأربعيني، أثار سخرية عناصر الدورية، ولم يقبلوا بورقة المختار، وشددوا على إبراز بطاقته الشخصية، كي يسمحوا له بالمرور نحو مدينته، رغم معرفتهم الوثيقة بقضية المكتومين في الحسكة. قومية أحمد العربية، جعلت عناصر العربية يعتقدون بكذبه، فلم يسمعوا من قبل بوجود “العرب المكتومين”، فـ”المكتوم” يرادف “أجانب الحسكة” للدلالة على عديمي الجنسية من الأكراد فقط.
ردّ العدواني، على هذا الاستهزاء، مخاطباً عناصر الدورية بقوله: “ذهب بشار الأسد وجئتم لتحكموا مكانه، فلتعطوني بطاقة شخصية كي أُعرّف عن نفسي بها”، فتركوه من بعدها.
“المكتومون العرب” هم فئة من سكان الحسكة لا يحملون الجنسية السورية ولا أي دولة أخرى، ويعدون بالآلاف، ولا يقارن عددهم بالمكتومين أو الأجانب من الأكراد. ولا يحملون أي أوراق تؤكد أسماءهم، أو مكان إقامتهم، أو أي شيء آخر. ويمكن تلخيص شكاوى “المكتومين” في حرمانهم من البطاقة الشخصية التي تثبت هويتهم وبالتالي من حق المواطنة، ما يحرمهم من حق التنقل بحرية بين محافظات البلاد والحصول على الرعاية الصحية في المشافي الحكومية وحق التحاق أطفالهم بالمدارس الحكومية، بشكل نظامي.
وتعتبر قضية توثيق عقود ومعاملات الزواج والطلاق وإثبات ملكية الأراضي والعقارات أعلى مستويات تجلي الظلم الذي تعرض له هؤلاء الناس، غير المعترف بوجودهم أصلاً، حتى ولو كأجانب، كما هو الحال لأجانب الحسكة من الأكراد الحاصلين على شهادة تعريف من “إدارة النفوس”.
تعود جذور مشكلة “المكتومين” في الحسكة إلى ستينيات القرن الماضي، ورغم ذلك لم تظهر أو تثار نهائياً خلال عقود طويلة، ربما بسبب طغيان مشكلة “الأجانب” في المنطقة على المشهد هناك.
يتحدر جميع هؤلاء “المكتومين” من عشائر عربية تعيش في منطقة رأس العين وتل براك، ومنها عدوان والبكارة وبني سبعة والطفيحيين. ويعتبر هؤلاء أنفسهم مواطنين سوريين يجب أن ينالوا حقوق المواطنة كاملة، تجاهلت حكومة دمشق مشكلتهم وتوابعها السياسية والاجتماعية والاقتصادية.
أول اعتراف بوجودهم كان في العام 2012، عندما طلبت الحكومة تسجيل المكتومين وتقدير أعمارهم، لمنحهم الجنسية، أسوة بأجانب الحسكة الذين حصل نحو 105 آلاف منهم عليها مع بداية الثورة السورية. فاجتمع ما بين 2000-3000 شخص، من العرب المكتومين، في مدينة الحسكة للخضوع لعملية تقدير الأعمار، من أطفال ونساء و شيوخ ورجال، لكن شيئاً بعد ذلك لم يحصل، وفق ما قاله إبراهيم حسن، أحد مكتومي منطقة السفح جنوبي رأس العين.
يتابع الحسن في حديثه لـ”المدن”: “لا يعرف الكثيرون عن المكتومين العرب أو عن أعدادهم الدقيقة نتيجة حسابهم ضمن أعداد عديمي الجنسية ضمن المحافظة بشكل إجمالي”، مشيراً إلى أن والده يحمل الجنسية السورية لكن والدته من عائلة مكتومة القيد من قرية مضبعة، رغم قضاء اثنين من أخواله، سنتين ونصف السنة، في صفوف قوات النظام.
وبحسب الحسن، فإن 300 دونم من الأرض، هي حصته من إرث والده، مع أشقائه العشرة المتزوجين. وهذه الارث مسجل في السجلات العقارية باسم زوجته، التي ما زالت قانونياً عزباء، على خانة أهلها، بينما تسير حياة أشقائه الأربعة من أبيه، بشكل طبيعي، لأن أمهم مواطنة.
كما أشار الحسن، إلى تحاشي أقربائه وجيرانه الزواج ببناته، خشية أن يرث أطفالهم صفة “مكتوم القيد” من الأم.
سالم يقول لـ”المدن”، إن والده كان في البادية، حين صدر “المرسوم الجمهوري التشريعي رقم 93 للعام 1962” في عهد رئيس الجمهورية ناظم القدسي، والمتضمن إجراء إحصاء استثنائي للسكان في منطقة الجزيرة، لتثبيت أسماء المكتومين في السجلات الرسمية. فطافت حينها اللجان على القرى لتطبيق المرسوم، ولم تشمل من كان في البادية أو من يعيشون حياة الارتحال في محيط بلدة المبروكة.
اجتاز سالم مرحلتي التعليم الأساسي والثانوي، لكن مديرية التربية والامتحانات بالحسكة لم تعطه شهادة التعليم الأساسي أو الثانوي، وأخبروه بإمكانية إكماله بالدراسة ولكن من دون الحصول على شهادات بها. “آثرت ترك الدراسة والعمل في الإنشاءات في العاصمة اللبنانية بيروت، التي وصلها باستخدام بطاقة شخصية مزورة”. ومع اندلاع الثورة السورية في العام 2011، عاد سالم إلى منطقته.
حتى ساعة الكهرباء سجّلها سالم باسم شقيق زوجته، ولم يدخل أبداً إلى المشافي الحكومية، ويقول إنه كان يشعر بالقلق بشكل دائم إلى أن لجأ إلى تركيا في العام 2013، وحصل على بطاقة حماية مؤقتة، عبر كتابة ضبط شرطة، وتأكيد المختار بأنه سوري محروم من جنسية بلاده. فأمسى سالم يسافر بحرية ويدخل المشافي الحكومية، وبات لديه حساب بنكي أيضاً في بلد اللجوء، لا في وطنه الذي يعترف بوجوده فقط بسجلات سرية لدى الأجهزة الأمنية. قصة سالم أشبه بشخصية روائية للكاتب التركي عزيز نيسن، تدور أحداثها حول شخص من مكتومي القيد تحت عنوان “يحيى ولا يحيى”.
المصدر: المدن