بينما كان العم عبد العليم حشّاش يحفر بعصاه بين الركام، تتوزع على وجهه المتجعد ملامح الإصرار والألم، كمن يبحث عن بيتٍ دفنه الزمن ولم تعد له سوى أطلاله. في بلدة تلمنّس الواقعة شرقي معرة النعمان، والتي دُمّرت خلال سنوات القصف الممنهج من قبل نظام الأسد السابق وروسيا، يعود الأهالي شيئاً فشيئاً، رغم انعدام مقومات الحياة.

يقول عبد العليم، وقد تجاوز السبعين: “هذا بيتي، يلي هدموه مليشيات الأسد وسرقوا سقفه لياخدوا الحديد… اليوم حجر حجر عم أخرج أنقاضه بإيدي. ما بدي أنقاض بيتي تعرقل طريق حدا، مثل ما الحرب ما قدرت تعرقلني عن الوقوف من جديد”.

تشير تقارير الدفاع المدني إلى أن ما يزيد عن 80% من البنية التحتية في تلمنّس قد دُمّر بفعل القصف الجوي والمدفعي، الذي طال المدارس والمراكز الطبية والمساجد. تلمنّس لم تكن استثناءً. فمحافظة إدلب بأكملها، منذ اندلاع النزاع في 2011، أصبحت واحدة من أكثر المناطق تضررًا في سوريا، حيث سُجل أكثر من 25,000 مبنى متضرر، منها 8,000 مبنى مدمر بالكامل.

بلدة بلا حياة… وسكان بلا خيار

تعرضت تلمنّس لدمار ممنهج، طال المنازل والمدارس والبنى التحتية، وحتى الذاكرة. خمس سنوات حُولت خلالها المدرسة الثانوية في القرية إلى ثكنة عسكرية، فيما بقي السكان مشرّدين في المخيمات. اليوم، يعود بعضهم ليجد أن البيوت صارت تراباً، والماء مقطوع، والكهرباء مفقودة، ولا وجود لأي مرفق صحي أو خدمي.

يعمل المتطوع في الدفاع المدني محمود الحسين على تنظيف المدرسة بغسيل الجدران والأرضيات وتنظيفها لكي يتمكن أبناء البلدة من العودة إلى مقاعد الدراسة ومواصلة مشوارهم التعليمي.

بدوره، يقول المتطوع رياض حشّاش من الدفاع المدني: “الأنقاض المتراكمة تُعيق حركة المدنيين، وتمنعهم حتى من الوصول إلى أراضيهم الزراعية. نحاول بكل ما نستطيع إزالة هذه العقبات، فتح الطرق، وترحيل الركام، لنعيد قليلاً من الأمل إلى هذه البلدة”.

وأضاف رياض” “آلاف الأطنان من الأنقاض في القرى والبلدات التي كان يحتلها بريف إدلب الشرقي، ومنذ أيام بدأنا حملةً لإنعاش هذه القرى والبلدات من جديد من خلال إزالة الأنقاض وترحيلها وفتح الطرقات المغلقة لنساعد المدنيين على العودة إلى حياتهم من جديد”

“أمل العائدين”

منذ انطلاق حملة “أمل العائدين”، تعمل فرق الدفاع المدني السوري على إزالة السواتر الترابية وفتح الشوارع المغلقة في تلمنّس ومعرشورين المجاورة. هي مهمة لا تقتصر على شق طرقٍ جديدة، بل على إعادة بناء رابط بين الماضي والمستقبل، بين البلدة التي كانت، وتلك التي يحلم بها سكانها.

في أحد الشوارع، يقف أسامة الخطيب، أبو أمجد، وقد عاد لتوه إلى منزله المهجور منذ ستة أعوام بسبب سيطرة قوات نظام الأسد على البلدة. ينظر إلى الباب المخلوع و إلى بقايا الجدران المنتصبة دون سقف ويقول: “رجعت على قريتي الحبيبة تلمنّس، نتأمل كل زاوية فيها وكل ذكرى مرينا فيها”.


عصب أبو أمجد رأسه بالكوفية وحمل المعاول لهدم بقايا الجدران عله يخرج منها ما يصلح للبناء بينما يحاول المساهمة في تجريف الأنقاض بمجرفته (المسحاة) لأنه لا يريد البقاء كمراقب لعمل جرافات الدفاع المدني، ويعلق قائلا: ” صحيح عم نعيش اليوم بين الأنقاض والركام، بس الأمل ما فارقنا، عنا أمل كبير إنه ترجع الحياة من جديد، ونشوف مدينتنا متعافية بهمة أهلها الطيبين”، مضيفا، “اليوم نحن بحاجة ماسة لتأمين أبسط الخدمات: ميّة شرب، مدارس، ومشافي… ونتمنى ترجع تعمر البلد، ليقدروا كل المدنيين يرجعوا على بيوتهم، وتنبني سوريا من جديد ونعيش بأمان واستقرار”

عودة السكان تعيد الحياة للبلاد

رغم كبر سنه، يقف عبد العليم ممسكاً بأداة المسحاة كأنها سلاح مقاومة. يقول، وعيناه تقدحان كبرياءً: “العمر تقدم، بس الأمل ما مات، وطالما في ناس عم تمدّ إيدها، رح نرجّع الروح لبلدتنا”.

في تلمنّس، لا أحد ينتظر منظمات دولية أو وعوداً سياسية. هنا، يُعاد البناء من بين الأنقاض، حجرًا بحجر. ليس فقط للبيوت، بل للكرامة، ولذكرى العائدين.


تصوير: الدفاع المدني السوري | إعداد: محمد العلي