السويداء، سوريا — كان عناصر ميليشيات الدروز القلقون على الحواجز في جنوب سوريا، يمدّون أعناقهم في الأيام الأخيرة ليتفحّصوا المركبات المتوقفة، ويُمعنون النظر في السائقين، مستعدين لاحتمال تهديدات جديدة.
فقد أدّت الاشتباكات مع مقاتلين موالين للحكومة إلى مقتل العشرات في هذه المنطقة خلال الأسابيع الماضية. وقد أثار تصاعد العنف، الذي أتى بعد موجات من الاقتتال الطائفي في مناطق أخرى من سوريا مطلع هذا العام، حالة من الخوف العميق في أوساط الطائفة الدرزية التي تشكل الغالبية في محافظة السويداء، إلى حد دفع بعض أفرادها إلى البحث عن المساعدة من جهة غير متوقعة: إسرائيل.
تقع هذه الجماعة قرب الحدود الأردنية، وعلى بعد أقل من 80 كيلومتراً من مرتفعات الجولان المحتلة من قبل إسرائيل، وقد اعتادت تاريخياً رفض أي تقارب إسرائيلي، على الأقل على الصعيد العلني. لكن الهجمات التي تعرّض لها الدروز من قِبل مسلحين إسلاميين يدعمون الحكومة السورية الجديدة، دفعت البعض إلى إعادة النظر في مواقفهم. وبالمقابل، أتاحت هذه الأزمة لإسرائيل فرصة لتوسيع نفوذها داخل سوريا، في محاولة، بحسب محللين سياسيين، لإرباك السلطات الجديدة التي يُخشى أن تكون حكومة إسلامية قوية حليفة لتركيا، بما يشكل تهديداً محتملاً.
في الأسبوع الماضي، وقف عناصر من ميليشيات الدروز على حاجز متقدم عند المدخل الجنوبي لمحافظة السويداء.

منذ وصول الرئيس السوري الجديد، أحمد الشرع، إلى السلطة في كانون الأول/ديسمبر، شنّ الجيش الإسرائيلي مئات الغارات الجوية على منشآت عسكرية داخل سوريا. كما أمر رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، بإنشاء “منطقة عازلة” داخل الأراضي السورية، مما وسّع رقعة الأراضي التي تحتلها إسرائيل هناك. ومؤخراً، بدأت إسرائيل في تقديم نفسها كـ”حامية للدروز” في سوريا، ففتحت الحدود لأول مرة منذ عقود لأداء الزيارات الدينية، وروّجت لخطط تسمح بمنح تصاريح عمل مؤقتة لدروز سوريا في شمال إسرائيل، وأنشأت مركزاً طبياً للطوارئ لمعالجتهم، بل وتحدثت عن “مظلة أمنية” إسرائيلية لحمايتهم.
ويوم الأربعاء الماضي، صرّح الرئيس الشرع بأن سوريا وإسرائيل منخرطتان في محادثات غير مباشرة “لمنع تدهور الوضع وخروجه عن السيطرة”.
ورغم أن عدداً من الشخصيات الدرزية البارزة عبّرت علناً عن رفضها لهذه المبادرات الإسرائيلية، خوفاً من أن تجعل مجتمعهم هدفاً مباشراً، فإن أحد أكثر الشخصيات نفوذاً في الطائفة، الشيخ حكمت الهجري، بدا مرحّباً بهذا الدعم خلال مقابلة مع صحفيي واشنطن بوست. وقال من منزله في قرية قنوات:
“نحن في أزمة… وندعو إلى تدخل دولي.” وعلى خلاف المواقف التقليدية للشارع السوري، صرّح الهجري قائلاً:
“إسرائيل ليست عدواً.”
وقال الهجري:
“لقد عشنا عقوداً تحت وطأة شعارات فارغة. في سوريا، يجب أن نهتم فقط بالقضية السورية.”
في إشارة إلى خطاب النظام السابق الذي كان يقدّم نفسه كمدافع عن القضية الفلسطينية، ويبرر من خلال ذلك عداءه لإسرائيل.
في مناطق أخرى من المحافظة، قال السكان إنهم يدركون أن إسرائيل تتصرّف بدافع المصلحة الذاتية، إلا أنهم يشعرون بقلق بالغ حيال مستقبلهم، ما يجعلهم مستعدّين لقبول أي دعم يوفّر لهم الحماية. وفي قرية حران الصغيرة، المحاطة بأميال من الأراضي القاحلة والصخور السوداء، كان أحد المقاتلين الدروز المحليين، رَبيعة مرشد، البالغ من العمر 30 عاماً، ينظر باتجاه الموقع الذي هاجمه منه مسلحون من السنّة قبل أيام، ويتأمل مأزق مجتمعه.
يشكّل الدروز، وهم جماعة دينية ناطقة بالعربية تعيش في سوريا ولبنان وإسرائيل، حوالي 3% فقط من سكان سوريا، لكنهم يتمتعون بنفوذ يفوق نسبتهم بسبب دورهم التاريخي في مقاومة الاستعمار، ولاحقًا من خلال سيطرة ميليشياتهم على منطقة السويداء الوسطى. وعلى الرغم من تعهّد الرئيس أحمد الشرع بحلّ جميع الميليشيات في البلاد متعددة الأعراق والطوائف، فإنّ الدروز يرفضون تسليم أسلحتهم، مشددين على أنهم لن يفعلوا ذلك حتى يثقوا بأن الحكومة قادرة على حمايتهم.
وقد تم دمج بعض مقاتلي المعارضة في الجيش الوطني الجديد، لكن لا يزال من بينهم متشددون إسلاميون، بعضهم يعتبر الدروز زنادقة، بينما كان الشرع نفسه عضوًا سابقًا في جماعة مرتبطة بتنظيم القاعدة. وعلى الرغم من وعوده بالحكم لصالح جميع السوريين، فإنّ عدم قدرته على ضبط أكثر الفصائل تشددًا زرع شعورًا بانعدام الأمان، بل وحتى بالخطر الوجودي، في أوساط العديد من الأقليات.
جاء اندلاع العنف بعد شهرين من اقتحام متشددين إسلاميين لمناطق على الساحل السوري وقتلهم لأكثر من 900 شخص، معظمهم من الطائفة العلوية، بحسب الشبكة السورية لحقوق الإنسان، وهي الطائفة التي كانت تشكل الحاضنة الأساسية للرئيس السابق بشار الأسد. وقد اندلعت تلك المجازر، التي هدأت نسبيًا الآن، عندما نصبت مجموعات موالية للنظام السابق كمينًا لقوات أمن تابعة للحكومة الجديدة.
ورغم أنّ تلك الأحداث لا علاقة لها مباشرة بالهجمات في مناطق الدروز، إلا أن التوتر الساحلي ساهم في تأجيج المخاوف في السويداء. أما الاضطرابات الأخيرة، فقد أشعلتها تسجيلات صوتية نُسبت زورًا إلى رجل دين درزي بارز، يُزعم فيها أنه أساء للنبي محمد. وردًا على ذلك، هاجم مسلحون سنّة منطقتين في العاصمة تضمان كثافة درزية، قبل أن يتقدّموا نحو السويداء. وقد ساهمت منشورات مضللة على وسائل التواصل الاجتماعي في تضخيم أعداد الضحايا، مما زاد حالة الذعر في المجتمع الدرزي.
في قرية الرصّاص الواقعة على تل في السويداء، قال السكان إنّ مسلحين إسلاميين وبدوًا أطلقوا قذائف هاون من مسافات بعيدة دون سابق إنذار، ما أدى إلى تحطيم جدران عدد من المنازل وإثارة فوضى عارمة. وفي مستشفى قريب، قال غزوان حمزة (42 عامًا) إنه أُصيب بينما كان يتوجه سيرًا على الأقدام لزيارة شقيقته. وقد كانت إصاباته بالغة.
أسوأ موجات العنف
في قرية “صوَرة الكبرى”، وهي قرية هادئة عادة تقع على الطريق الرئيسي المؤدي إلى دمشق ويزرع سكانها الدروز والمسيحيون أشجار الفاكهة والكروم، تعرضت عدة منازل للنهب والحرق. وكانت شظايا الزجاج الفBrokenr والطلقات النارية متناثرة على الأرصفة، في حين كانت قوات الأمن الحكومية تقوم بدوريات في المكان عند زيارة صحفيي “واشنطن بوست”. وتم تدمير ضريح عصام زهر الدين، الجنرال الدرزي في جيش الأسد، وتفحمه بالكامل.
ويبدو أنّ غالبية الضحايا في صوَرة الكبرى كانوا من مقاتلي الدروز. وفي المستشفى، قال بشار علاوي (45 عامًا)، وهو شرطي درزي سابق، إنه أصيب بطلق ناري في الرقبة والخاصرة بعد أن هاجمه مسلحون سنّة بصحبة مركبات حكومية. وأضاف: “كنت أول من أطلق النار دفاعًا عن النفس”.
كانت غرفة المستشفى مكتظة بالأقارب، بعضهم لا يزال يرتدي ملابس النزوح. أحد الرجال ارتدى قميصًا استعاره بعد أن فرّ بسرواله القتالي فقط. لم يكن أحد منهم يعتقد أن العودة إلى صوَرة الكبرى خيار ممكن. قال علاوي: “إنهم يحرقون كل شيء ويسرقونه”، وعند سؤاله إن كان هناك أي شرط قد يدفعه لتسليم سلاحه، هز رأسه نافيًا: “لا، لا نثق بهم”.
في القرية ذاتها، قال القلة المتبقون إنهم كانوا متوترين في البداية من قدوم القوات الحكومية، لكن تلك القوات عاملتهم بشكل جيد.
قال مجد زهر الدين (45 عامًا): “الإشاعات تزيد الوضع سوءًا وتثني الناس عن العودة”. وأضاف: “يسألنا الناس باستمرار إن كان هناك مقاتلون أجانب من الشيشان أو أفغانستان، وأردّ عليهم كل مرة: لا، هذا غير صحيح”.
تدخل إسرائيلي
في الشهر الماضي، ودّع جنود دروز إسرائيليون وفدًا من أكثر من 600 رجل دين درزي من سوريا أثناء عودتهم من زيارة إلى إسرائيل، في مشهد نادر. بعض دروز إسرائيل أشادوا بالتحركات الإسرائيلية لدعم نظرائهم السوريين، في حين حذر قادة مجتمعيون آخرون من أنّ ذلك قد يفاقم التوتر مع المجتمع السوري الأوسع.
لكن مع اندلاع العنف مجددًا في ضواحي دمشق، أغلق دروز في شمال إسرائيل الطرقات وأشعلوا الإطارات مطالبين رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو بتقديم مزيد من الدعم للدروز في سوريا.
ويرتبط العديد من دروز إسرائيل بعلاقات عائلية وثيقة مع الدروز في سوريا، كما أن نسبة كبيرة منهم يخدمون في جيش الدفاع الإسرائيلي، بعضهم في وحدات قتالية، وقد ارتقى بعضهم إلى مراتب عليا. وقال الجيش الإسرائيلي لاحقًا إنه “أجلَى” عدة عشرات من الدروز السوريين لتلقي العلاج في مستشفيات إسرائيلية.
وأشار قادة الدروز في إسرائيل إلى أنهم يساعدون في نقل النساء والأطفال من ضاحيتي صحنايا وجرمانا إلى قرية في الجزء المحتل من جنوب سوريا. وقال رضا منصور، وهو درزي إسرائيلي ودبلوماسي سابق: “هناك حملة واسعة اليوم في جميع قرى الدروز في إسرائيل لجمع الأموال والمساعدات”. وأضاف: “سيتم جمع معدات، وطعام، وملابس، وفرش، وأموال”.
وأشار منصور إلى أنّ على إسرائيل أن تقدم دعمًا للدروز في سوريا، بما في ذلك ضربات جوية عند الضرورة، لكن دون إرسال قوات برية.
جاهزون للقتال
في سوق السويداء المركزي نهاية الأسبوع الماضي، كانت حالة التوتر عالية للغاية. فقد أدى ظهور مركبة ذات نوافذ مظللة إلى حالة هلع، حيث خشي السكان من هجوم بسيارة مفخخة، وهرعوا لإخلاء الأكشاك بسرعة، فيما أطلق أحدهم النار في الهواء لتفريق الحشد بشكل أسرع. لكن اتضح لاحقًا أن المركبة لم تكن تهديدًا، وانتهى الذعر كما بدأ. ومع ذلك، كان واضحًا أن أي إشاعة صغيرة كافية لإشعال هلع جديد.
على بعد عدة أميال في قرية حِرّان، قال المقاتل ربيعة مرشد إنهم مستعدون لأي معركة قادمة. “قمنا بتحصين مواقعنا، ونصبنا قذائف هاون”، قال.
وقد توصّل مسؤولون حكوميون وقادة دروز إلى اتفاق يقضي بأن تبقى مسؤولية الأمن في كثير من المناطق بيد ميليشيات الدروز. وفي أنحاء السويداء خلال الأيام الماضية، أكد المقاتلون أنهم سيرفضون أي ترتيب مستقبلي يعيد المحافظة إلى سيطرة قوات الحكومة المركزية. وقال مرشد إنه لا يوجد سيناريو واقعي قد يدفعه إلى التخلي عن سلاحه. وأضاف: “باستثناء حالة واحدة فقط: إذا تبقّت معي رصاصة واحدة فقط للدفاع عنا، فسأستخدمها على نفسي”.
ذكرياته عن مقاطع الفيديو التي توثق العنف الطائفي على الساحل قبل شهرين لا تزال حيّة في ذهنه. “إذا حدث هناك، يمكن أن يحدث هنا”، قال. “لهذا نحتاج إلى الحماية”.
المصدر: واشنطن بوست
ترجمة: موقع دجلة