اسم الكاتب وصورته
صورة الكاتب محمـد العلـي

استقبال فرنسا رئيس المرحلة الانتقالية في سوريا أحمد الشرع في أول زيارة رسمية له إلى أوروبا، نقطة تحول جديدة رغم المعوقات أمام حكومته لوضع حلول جذرية لمشاكل الداخل السوري، فجاء محاولا إعادة العلاقات مع الغرب بهدف رفع العقوبات التي بات ينظر عليها بأنها أم المشاكل والعراقيل أمام تقدم دمشق، فطانت كلماته المحسوبة ضرورية، وحتى إجاباته الجاهزة لإزالة مخاوف الساسة الغربيين، طرحت تساؤلات جديدة على الساحتين السورية والدولية!

في باريس، بدا الرئيس الشرع واثقاً. لم يتلعثم، ولم يتردد في مخاطبة الفرنسيين بلغة شديدة الانضباط، تُراعي حساسيات الغرب من جهة، وتطمئن الداخل السوري من جهة أخرى. لكن خلف هذا الخطاب المضبوط بدقة، تختفي تفاصيل واقع معقد على الأراضي السورية، حيث تتنازع المشاريع الإقليمية والدولية، بينما يبقى مصير الدولة السورية رهن توازنات بين القوى الكبرى وحلفائها الإقليميين وما يرتبط بها من قوى سورية، ومع كل هزة يحدث انزياح وارتجاج يجعل السوريين يفيقون من نشوى التحرر من حكم بشار الأسد.

في 7 أيار/مايو، كشفت وكالة رويترز عن قناة خلفية فتحتها الإمارات العربية المتحدة بين سوريا وإسرائيل، تهدف إلى تهدئة التوترات المتصاعدة على الحدود الجنوبية. هذه الوساطة غير المعلنة سابقًا، وُصفت من قبل ثلاثة مصادر مطلعة بأنها “تتركز على ملفات أمنية وتقنية واستخباراتية”، دون أن تُستبعد إمكانية توسع النقاشات لاحقًا.

وفي أول اعتراف علني بذلك، قال وزير الخارجية أسعد الشيباني، الأسبوع الماضي أن سوريا لن تشكل تهديد حتى على إسرائيل، وأن المفاوضات مع تل أبيب بحدود ضبط الوضع الأمني في منطقة فض الاشتباك ولم تتطرق للتطبيع لأن إسرائيل تحل أرضا سورية، وهذا ما أكده الشرع في باريس:

“هناك مفاوضات غير مباشرة تجري عبر وسطاء لتهدئة الوضع. نحن نتحدث إلى كل الدول التي لديها تواصل مع الجانب الإسرائيلي للضغط عليه كي يتوقف عن التدخل في الشؤون السورية وانتهاك أجوائنا.”

هذا التصريح يؤكد رغبة الحكومة الجديدة في تفادي صدام مباشر، لكنه يُظهر أيضاً حدود الخيارات السورية في ظل اختلال موازين القوى، ولا اعتقد الحديث عن مفاوضات مباشرة كما أعلنت صحف إسرائيلية منطقيا، لأن الحكومة المؤقتة ليست مخولة للدخول بمعاهدات جديدة وإن دخلت بتفاهمات ستسقط بوصول حكومة منتخبة إلى السلطة.

ولأن المشهد الإقليمي يضغط بقوة خاصة بوجود مشروعين يتنازعان مستقبل سوريا: الأول، مشروع تركي بقيادة أردوغان يراهن على “سوريا مركزية قوية حليفة لأنقرة، والثاني مشروع إسرائيلي يسعى إلى “تقسيم البلاد إلى كيانات متعددة على أسس طائفية وعرقية، يضمن ضعف الدولة أولا، ثم تأمين حاجز فصل بشر من خلال تأسيس منطقة حكم ذاتي يحكمها الدروز قرب الجولان حتى لو تطلب ذلك تهجير مليون سوري من حوران أو حتى تهجير الدروز أنفسهم من جبل حوران إلى المنطقة العازلة.

وهنا يبرز تساؤل منطقي هل بات الشرع مستعداً للتحالف مع روسيا وتركيا معاً إذا ما أُغلقت أمامه أبواب الأوروبيين والأمريكيين؟ تصريحاته توحي بذلك. الرجل حاول تقديم ضمانات لأوروبا لكنه شدد على ذاتية الحل السوري، ولا يتبنى خطاباً عدائياً ضد موسكو ولا أنقرة، بل يتعامل معهما كلاعبين يمكن التفاوض معهما، فالحدود السورية باتت مفتوحة أمام التدخلات الإقليمية والدولية، بينما تواصل إسرائيل ضرباتها الجوية بلا مقاومة جدية من دمشق ولا من العرب.

النظام الجديد يدفع ثمن تصرفات النظام السابق، فالدور العربي، وخاصة الإمارات، في الوساطة مع إسرائيل، يعكس واقع التقسيم الفعلي، ومسألة العجز عن إدارة التنوع الديني والإثني، فدمشق مازلت تنظر إلى التنوع – خصوصاً وجود الأقليات من علويين، ومسيحيين، وكرد – بوصفه تحدياً أمنياً لا مصدرا للقوة، وهذا ما برز في مسألة التوتر مع المسلحين الدروز جنوب البلاد والتدخل الجوي والأمني الإسرائيلي.

في هذا السياق، يجب التمييز بين التواصل غير المباشر مع إسرائيل عبر وسيط خليجي (الإمارات) من قبل دمشق، وبين تواصل بعض الشخصيات في الجنوب أو الشرق أو الغرب السوري مع الإسرائيليين، فبينما تحاول الحكومة السورية استخدام القنوات الخلفية لوقف الغارات وحماية السيادة الجوية، فإن بعض الفاعلين المحليين يذهبون إلى حد المطالبة بالحماية الإسرائيلية العلنية أو إقامة كيانات فدرالية مستقلة تتجاوز الإرادة الوطنية، في ما قد يُفهم كمقدمة لتقسيم حقيقي خاصة أنهم يرفضون تسليم السلاح ويرفضون احتكار الدولة للعنف.

الحديث عن مشروع استثمار فرنسي في ميناء اللاذقية يعكس رغبة باريس في إعادة الانخراط اقتصادياً في سوريا الجديدة. لكن من غير المرجح أن يتحول المشروع إلى نقطة ارتكاز لتدخل فرنسي أوسع في الساحل، خصوصاً أن الوجود الروسي لا يزال قائماً، وإن كان قد ترنّح بعد سقوط النظام السابق.

ومع ذلك، يمكن لفرنسا، عبر هذه الورقة الاقتصادية، أن تحافظ على موطئ قدم متزن في الملف السوري، يسمح لها بلعب دور الوسيط لا المستقطَب كما تفعله بملف القوات الكردية، وهذا ما أشار إليه الرئيس الفرنسي حين تطرق إلى بداية انسحاب القوات الأمريكية من شرق سوريا.

أمام كل هذه التحديات وضغوط ملفات الأقليات والإرهاب والمخدرات، يتبنى الرئيس الشرع خطاباً دقيقاً، لا يعترف بأن حكومته مسؤولة عن أي استهداف منهجي للأقليات، لكنه لا يقدم في المقابل ضمانات واضحة لطمأنة هذه الفئات، كما أنه يُبقي على مسافة مدروسة من القوى الدولية، في انتظار ما ستؤول إليه رهاناته لرفع العقوبات وتحييد الضربات الإسرائيلية، مع الحفاظ على “استقلال القرار الوطني”.

الإدارة السورية الجديدة مدعوة إلى تجاوز هذا التحدي، بتقديم إجابات حقيقية حول مستقبل البلاد، بدءًا من التعامل مع الجراح الداخلية، وصولًا إلى بناء علاقات جديدة تضمن سيادة البلاد بعيدًا عن الضغط الإقليمي والدولي، فالتحدي الأكبر يكمن في بناء سوريا جديدة قادرة على تجاوز الماضي وتحقيق العدالة الانتقالية التي تضمن للشعب السوري مكانًا في المستقبل.

فالمطلوب اليوم هو خطة انتقالية واضحة، وضمانات دستورية جامعة، وتوافقات وطنية تُخرج البلاد من لعبة المحاور إلى منطق الدولة وإلا، فإن سوريا، مهما تغيّر حكّامها، ستبقى ساحة للصراع لا دولة مستقرة.