دمشق- يلاحظ كل من يسير في شوارع دمشق أو ريفها عشرات المجموعات من الأطفال المنتشرين في كل مكان، يعملون في جمع البلاستيك من القمامة، أو يبيعون البسكويت والورود والمحارم، أو يستجدون المارة للحصول على بعض المال، وأحيانًا للحصول على ثمن ساندويتش فلافل يطالبونك بدفعه للبائع إن لم تصدقهم.
بهذه الجملة، تصف فتون، موظفة في منظمة إنسانية في دمشق -للجزيرة نت- مشهدًا يوميا من شوارع العاصمة السورية، في معرض إجابتها عن سؤال حول حجم انتشار ظاهرة عمالة الأطفال وتسوّلهم في مناطق سيطرة النظام.
وتضيف فتون، المشرفة في برنامج حماية الطفل في المنظمة، والتي اكتفت باسمها الأول، أنه على الرغم من عدم وجود إحصاء دقيق لعدد الأطفال المشردين أو العاملين في مهن شاقة في مناطق سيطرة النظام، فإن العمل الميداني “وحتى الملاحظة العابرة في الطرقات” يكشفان أن الظاهرة تفاقمت في السنوات الأخيرة إلى حد بعيد.
وكان تقرير نشرته صحيفة “الوطن” السورية، في 24 أكتوبر/تشرين الأول 2022، سلط الضوء على تفشي ظاهرة عمالة الأطفال في المهن “السيئة”، حسب وصف التقرير، كنبش القمامة ومسح السيارات على إشارات المرور.
وفي تصريح للصحيفة، قال معاون وزير الشؤون الاجتماعية والعمل في حكومة النظام محمد نبهان إن ظاهرة عمالة الأطفال تعدّ عمومًا من أبرز المشكلات الاجتماعية التي تواجه المجتمعات.
ويعزو المسؤول تفشي الظاهرة في مناطق سيطرة النظام إلى الفقر والحاجة وغياب المعيل والتفكك الأسري في بعض الحالات، مشيرًا إلى الآثار السلبية الجسدية والنفسية التي تلحق بالأطفال جراء تلك الأعمال.
ظروف صعبة وحلول غير مجدية
ورأى نبهان أن ظاهرة وقوف الأطفال على الإشارات المرورية وفي الطرقات تندرج تحت باب التسول، لافتًا إلى أن الوزارات المعنية تنسق مع الجمعيات الخيرية وغيرها من الجهات للحد من الظاهرة، عبر ضبط الحالات “وإيداعها لدى أقرب قسم شرطة” ثم نقلها، وفق آلية قانونية وقضائية، إلى دور الرعاية والتأهيل التابعة لوزارة الشؤون الاجتماعية والعمل.
في حين أشارت الدكتورة منى كشيك، رئيسة قسم أصول التربية في كلية التربية بجامعة دمشق، إلى أن جهود وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل في حكومة النظام غير كافية للحد من الظاهرة، التي لا تنفك تتفاقم على الرغم من توقيع الوزارة مذكرتي تفاهم مع منظمة العفو الدولية قبل 3 أعوام بالالتزام للحد من ظاهرة عمل الأطفال في سوريا.
وأضافت كشيك أن عشرات الآلاف من الأطفال السوريين يعيشون في ظروف صعبة ويمتهنون مهنا تصنف ضمن القاسية دوليا.
وقدّرت المسؤولة الجامعية أعمار هؤلاء الأطفال واليافعين بين 15-18 عاما، وأشارت إلى أن الأعمال التي يزاولونها كصيانة وغسيل السيارات والعمل في ورش الخياطة وغيرها من الأعمال البدينة لا تتناسب وقدراتهم الجسدية.
وشددت على أن الأطفال يتعرضون لأخطار عدة من بينها التحرش والاستغلال الجنسي، وأنهم يجبرون على القيام بأفعال منافية للأخلاق والآداب العامة من قبل أرباب العمل الذين يستغلون حاجة الأطفال للمال وخوفهم من الإبلاغ عن الحالات المسيئة.
لكن فتون رأت -في حديثها للجزيرة نت- أن تصريحات معاون الوزير، والإجراءات المتخذة من قبل الوزارات والجهات المعنية، تنم عن “فهم قاصر للظاهرة ومسبباتها، وتعالج الأعراض دون المرض الذي هو استشراء الفقر في المجتمع”.
بينما أشار وهاج (43 عاما) -خبير وناشط اجتماعي من ريف دمشق- إلى أن لعمالة الأطفال آثارا سلبية تنعكس على الأطفال والمجتمع على حد سواء، فتسول الأطفال وعمالتهم وتعرضهم لمواقف لا إنسانية كالجوع أو التحرش أو الاستغلال، إلى جانب حرمانهم من حقوقهم الطبيعية في الغذاء الصحي والتعليم واللعب؛ “سيؤدي كل ذلك إلى مشاكل في الصحة البدنية والنفسية والعقلية، مع ما قد ينطوي عليه من خطر إصابتهم بأمراض ذات أثر قد يستمر طوال حياتهم”.
ويضيف للجزيرة نت “كما أن عملهم يجعلهم أكثر عرضة للشعور بالنقص وإدمان المواد المخدرة، ويكونون أكثر ميلا للعدائية والعنف وعدم تقبل الآخر، وغيرها من الآثار التي قد تجعل سلوك بعضهم يشكل خطرا على المجتمع”.
الأكثر تعقيدا والأوسع انتشار
ووفقا لتقرير منظمة صندوق الطوارئ للطفولة التابع للأمم المتحدة (اليونيسيف)، فإن 90% من الأطفال السوريين يحتاجون إلى دعم، واصفا عمالة الأطفال بالمشكلة الأوسع انتشارا والأكثر تعقيدا من مشكلات حماية الطفل.
وأشار التقرير إلى أن أكثر من 2.4 مليون طفل في داخل سوريا لا يذهبون إلى المدارس.
ومن جهتها، قدّرت الأستاذة في علم الاجتماع في جامعة دمشق هناء برقاوي ارتفاع نسبة عمالة الأطفال في سوريا خلال أعوام الحرب بنحو 20-30 ضعفا.
وقالت البرقاوي، في حديث لموقع “سناك سوريا” المحلي في سبتمبر/أيلول 2022، إن الظاهرة كانت تقتصر سابقا على مهن محددة في الصيف، بينما اليوم الأطفال يعملون على مدار السنة وبكل المهن.
في حين اتهم عضو المكتب التنفيذي في محافظة دمشق سمير الجزائري، خلال انعقاد جلسة مجلس محافظة دمشق في مارس/آذار 2022، الأطفال المتسولين بأنهم أدوات لعصابات و”مافيات” يشغلونهم ويأخذون منهم ما كسبوا من المال.
وأضاف “لسنا مضطرين إلى تأمين سكن لهم، فنحن يجب أن نكافح التسول من دون أن نصنع متسولين”.
وكشف مدير مكتب مكافحة التسول في وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل في حكومة النظام علي الحسين، عبر إذاعة “ميلودي إف إم” المحلية في يونيو/حزيران 2022، أنه تم التعامل مع 162 حالة تسول في دمشق وريفها منذ بداية العام الجاري، مشيرا إلى اطراد تزايد نسب التسول مع تزايد الصعوبات المعيشية.
تسرّب وعنف وإدمان
وإلى جانب ظاهرتي التسوّل والعمالة، تنتشر بين الأطفال في مناطق سيطرة النظام ظواهر كالعنف والإدمان على التبوغ، والتسرّب المدرسي المتفاقم أخيرا.
وفي السياق، تحدثت رئيسة دائرة البحوث في مديرية تربية ريف دمشق سعاد محمد، لصحيفة “الوطن” شبه الرسمية في أكتوبر/تشرين الأول 2022، عن انتشار واسع النطاق لظاهرة العنف الجسدي بين طلبة المدارس “داخل أسوار المدرسة وخارجها”.
وأضافت المسؤولة أن شكاوى تَرِد باستمرار إلى المديرة حول اصطحاب الطلاب لأسلحة خفيفة كالسكاكين إلى المدارس.
في حين أشار أستاذ التربية في جامعة حلب حليم الأسمر، في حديث صحفي لجريدة “الوطن”، إلى أن العنف بين الأطفال ليس جسديا فحسب، بل هو معنوي ورمزي يتمثل بالتحرش والتسرب المدرسي، وانتشار الإدمان والتدخين والسرقة في الحرم المدرسي.
وقالت آية (46 عاما)، مرشدة اجتماعية وتربوية في مدرسة إعدادية في ريف دمشق، إن حالات السرقة والسلب والتحرش والاعتداء بين الطلاب ازدادت زيادة كبيرة في العامين الماضيين.
وأضافت المرشدة في حديث للجزيرة نت “هناك طلاب يسرقون بدافع الجوع، وآخرون يسرقون ويعتدون بالضرب على زملائهم لدوافع نفسية واجتماعية مختلفة متعلقة بالتنشئة المنزلية والبيئة المحيطة المشجعة على العنف، خاصة خلال أعوام الحرب”.
وحسب تصريح لرئيس دائرة التعليم الأساسي في وزارة التربية في حكومة النظام رامي ضللي، عبر إذاعة “ميلودي إف إم” المحلية في مارس/آذار الماضي، فإن نسبة التسرّب المدرسي تراوح بين 8 و12% من إجمالي الطلاب في مناطق سيطرة النظام.
وكشف تقرير لمنظمة اليونيسيف، مطلع العام الماضي 2021، أن أكثر من 2.4 مليون طفل في سوريا لم يلتحقوا بالمدارس، وأن قرابة 1.6 مليون آخرين معرضون لخطر التسرّب وفقدان التعليم.
وبعد 11 عاما على اندلاع النزاع المسلح في البلاد، يزداد واقع الطفولة قتامة وتعقيدا عاما بعد آخر متأثرا بالأزمات الاقتصادية والمعيشية والخدمية المتفاقمة، التي جعلت نحو 90% من السوريين يقبعون تحت خط الفقر منذ عام 2021.