على وقع قعقعة السلاح شمال غرب سوريا، وصل وزير الخارجية الإيراني إلى تركيا بعد زيارته لدمشق على وقع في الوقت نفسه، أكد الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان ونظيره الروسي فلاديمير بوتين دعمهما “غير المشروط” لدمشق، حيث يسعى بشار الأسد للحصول على دعم من حلفائه بعد الهزيمة النكراء التي لحقت بقواته في حلب وإدلب، كما حاول التقرب من دول الخليج لمواجهة توسع النفوذ التركي من الشمال السوري إلى المنطقة الوسطى.
كل هذه التحركات الدبلوماسية انتهت بلقاء وزير الخارجية الإيراني في أنقرة لإجراء محادثات مع نظيره التركي هاكان فيدان. الأخير صرح بأن تفسير تحركات الفصائل بقيادة تحرير الشام كارتباط بالخارج غير صحيح، وأن تجاهل المطالب المشروعة للمعارضة السورية وعدم إخلاص النظام في العملية السياسية هما السبب الحقيقي لانفجار الأوضاع. وحذّر من تصاعد الأمور أكثر، بينما أكد الرئيس التركي رجب طيب أردوغان على ضرورة الحفاظ على وحدة أراضي سوريا ومنع أي تطورات غير مرغوبة.
فشل عسكري و لعبة دولية
شهدت الأيام الأخيرة تصعيدًا دراماتيكيًا في المشهد السوري، مع انسحاب قوات النظام السوري من مناطق استراتيجية في حلب باتجاه حماة تحت ضغط هجوم الفصائل العسكرية بقيادة تحرير الشام. هذا التراجع العسكري كشف عن ضعف القوات وفقدانها زمام المبادرة، ما دفعها للرد بشكل وحشي عبر قصف عشوائي استهدف مدينة حلب وإدلب.
الحصيلة كانت مأساوية: عشرات القتلى من المدنيين، بينهم نساء وأطفال، وتدمير مرافق حيوية مثل مشفى حلب الجامعي في مشهد يعكس العجز أمام هذه الهزيمة القاسية ومحاولة تعويضه بالانتقام من المدنيين والبنية التحتية، فالقصف و سياسة “الأرض المحروقة” يعتمدها النظام كلما خسر في الميدان، لكنه أيضًا رسالة للفصائل والداعمين الإقليميين بأن أي تقدم سيكون مكلفًا خلال الإمعان بتهجير المدنيين، حتى يشعرون بعدم وجود الأمان إلا تحت سيطرته، هذه الاستراتيجية لم تفلح سابقًا ولن تُحقق سوى المزيد من المآسي للمدنيين وتآكل شرعية النظام محليًا ودوليًا.
وأكثر من ذلك، فإخفاق قوات النظام في الاحتفاظ بمواقعها، يثير تساؤلات عن كفاءته وقدرته على مواجهة الضغوط العسكرية دون دعم مباشر من روسيا أو الميليشيات الموالية لإيران. هذا الانسحاب لا يعكس فقط خسارة ميدانية، بل أيضًا ضعفًا تكتيكيًا عميقًا، حيث بات النظام غير قادر على إدارة جبهاته المشتعلة، مما يضعف موقفه السياسي والعسكري على حد سواء.
التقديرات تشير إلى أن العمليات لن تتجاوز منطقة خفض التصعيد التي تشرف عليها تركيا وروسيا، ما يعني أن ما يجري هو جزء من تفاهمات إقليمية تهدف لإعادة ترتيب الأوراق في الشمال السوري، وهذا الحضور التركي المتنامي في سوريا قد يفتح الباب أمام تساؤلات حول مصير القوات الكردية، التي خسرت مواقعها في تل رفعت وأحياء حلب بعد حصار خانق من الفصائل المعارضة. فانسحاب القوات الكردية باتجاه الرقة – إذا اكتمل- قد يكون جزءًا من اتفاق غير معلن بين أنقرة وموسكو، حيث يتم التضحية بحلب مقابل تولي تركيا مهمة إبعاد المسلحين الأكراد وإنشاء منطقة واسعة لإعادة اللاجئين. إذا صح هذا السيناريو، فإن ذلك يدل على وجود تضارب بوجهات النظر بين الروس من جهة وبين نظام الأسد والإيرانيين من جهة حول ملف الحدود مع تركيا، وفي النهاية هو انعكاس لعجز النظام عن إدارة الصراع بشكل مستقل.
أهمية معركة حماة
في حال قرر النظام توسيع عملياته انطلاق من حماة، فإن ذلك سيضع معظم قواته على المحك، لأن هذه المعركة اختبار وجودي لقواته، فالمدينة ذات الأهمية الاستراتيجية تشكل محورًا لربط دمشق بالساحل السوري، فمعركة حماة ستُحدد مصير حمص وبالتالي النظام في المدى القريب، إذا خسرت قوات النظام هذه المعركة، فإن تبعات ذلك قد تكون كارثية عليها، وقد تؤدي إلى انهيار أوسع في صفوفها، خاصة في ظل افتقارها للدعم الكافي من الحلفاء.
أما إذا كان التوجه يقتصر على تثبيت الوضع في منطقة خفض التصعيد، فإن ذلك يعني أن النظام وحلفاءه قد ارتضوا بترتيب جديد للمنطقة، وهو ترتيب يخدم المصالح الروسية والتركية بالدرجة الأولى، بينما يبقى النظام مجرد أداة تُستخدم لتحقيق أهداف الآخرين، كما أسلفنا.
وللحديث عن عن الهجوم المضاد، يجب أن نتذكر أنه في عام 2015، وبدعم عسكري حاسم من روسيا وإيران، تمكن قوات نظام الأسد من شن هجوم معاكس على (قوات الفتح) واستعادة السيطرة تدريجيًا على أجزاء كبيرة من سوريا، بما في ذلك مدينة حلب في عام 2016، وأجزاء من حماة وإدلب لاحقا. ومع ذلك، فقد النظام السيطرة على هذه المدينة مجددًا خلال أيام، وبصورة مذهلة، دفعت البعض للقول بانه انسحاب ضمن تفاهمات دولية.
حاليا، بشار الأسد في وضع ضعيف للغاية، ويسعى للحصول على دعم ليس فقط من الإيرانيين بل أيضًا من دول الخليج أو أي دولة مستعدة لتقديم المساعدة في ظل انشغال روسيا بالحرب في أوكرانيا وإيران بالصراع في لبنان.
في هذا السياق، أفادت وكالة رويترز بأن ميليشيات مدعومة من إيران تُرسل من العراق لدعم النظام السوري، حيث دخل عشرات من مقاتلي الحشد الشعبي العراقي عبر معبر البوكمال، وفقًا لمصادر عسكرية سورية، فالتعزيزات تشمل ميليشيات “كتائب حزب الله” و”الفاطميين”، رغم نفي الحشد العراقي ذلك.
فالنظام السوري يفتقر إلى الدعم الكافي من الميليشيات الحليفة، مثل حزب الله والميليشيات الشيعية العراقية، إضافة إلى نقص الدعم الجوي الروسي، مما يجعل أي هجوم مضاد أمرًا غير واقعي.
ختامًا، يبدو أن المشهد السوري يسير نحو مزيدٍ من التعقيد، حيث يتقاطع الفشل العسكري للنظام مع مصالح إقليمية متضاربة بين تركيا، وروسيا، وإيران، في حين أن النظام يُحاول الحفاظ على رمزيته من خلال توجيه حكومته للاستمرارفي تقديم الخدمات عبر موظفيها وكأنه يريد تطبيق اتفاقيات سابقة عقدت مع تركيا في اطار مسار أستانا، وتبقى سيطرته هشّة أمام تطورات ميدانية سريعة تهدد استقراره، فرغم التفاهمات الإقليمية دون توافق نهائي، ستظل سوريا ساحةً لتصفية الحسابات، بينما يدفع المدنيون الثمن الأكبر.