الرئيس أحمد الشرع، في زيارته الأولى إلى الكرملين، يريد القول أن دور روسيا في سوريا الجديدة مستمر، لكن دمشق تطلب من «تحالف الضرورة» هذا أن يكون على أساس «شراكة لا وصاية»، والمصافحة مع بوتين لم تكن مفاجِئة على مستوى الواقعية الدبلوماسية للرئيس السوري؛ رغم وقوف موسكو العسكري إلى جانب بشار.

غير أنّ الموقف لا يخلو من تناقضٍ أخلاقي وسياسي، حيث جاءت زيارة الشرع إلى موسكو في توقيتٍ حساس، بعد أيام من صدور تقريرٍ موسّع عن الشبكة السورية لحقوق الإنسان في الذكرى العاشرة للتدخل العسكري الروسي في سوريا، طالب موسكو بتقديم اعتذارٍ رسمي وتعويضٍ للضحايا، وبتسليم بشار الأسد الذي لجأ إلى روسيا عقب سقوط نظامه في كانون الأول/ديسمبر 2024.

وثّقت الشبكة مقتل 6993 مدنياً بينهم أكثر من 2000 طفل وقرابة 1000 سيدة نتيجة التدخل الروسي منذ أيلول/سبتمبر 2015، الذي شكّل نقطةَ تحوّلٍ خطيرة غيرت ميزان القوة لصالح الأسد، إذ انحاز كلياً للنظام وارتكب انتهاكاتٍ جسيمة شملت القصف والتهجير واستخدام الذخائر العنقودية ضد المدنيين.

كما عطّلت روسيا تحرك الأمم المتحدة 18 مرة في مجلس الأمن عبر استخدام حق النقض، ووفّرت للنظام السوري غطاءً سياسياً ودبلوماسياً مكّنَه من الإفلات من العقاب.

لماذا، إذن، يعيد الشرع بناء تحالف ظاهري مع موسكو؟ الجواب بسيط وواضح كوضوح الشمس، الاقتصاد والسياسة والأمن والضغوط الغربية، فرغم ثقل هذه الأرقام، فإن دمشق اليوم تواجه واقعاً أكثر قسوة.

 سوريا تنهكها أزمة اقتصادية مستمرة وبُنية زراعية مهترئة واقتصادٌ منهار؛ وعودة قنوات الإمداد—خصوصًا الحبوب والطاقات—تمثّل ضرورة يومية لا رفاهية، و روسيا، بدورها، أظهرت رغبة في استثمار مرافقها في طرطوس وحميميم لتعزيز علاقتها القديمة المتجددة مع سوريا الجديدة، لذلك يسعى الشرع إلى استثمار «الواقعية» لتخفيف الضغط الاقتصادي والأمني عن الدولة، خاصة بعد خطاب الرئيس الأمريكي في الكنيست الإسرائيلي وحديثة عن انتظار دول أخرى للانضمام إلى اتفاقات إبراهام أو أنها ستواجه مشاكل اقتصادية كبيرة، ولا يوجد اهم من لبنان وسوريا في هذا السياق لقربهما من فلسطين المحتلة.

في الشرق أيضا، كان لروسا دور كبير بإعادة نشر قوات النظام السابق في مناطق سيطرة القوات الكردية (قسد) بالجزيرة السورية، حيث تدير القوات الروسية مطار القامشلي الدولي، وهذا يقوي موقف دمشق في هذا الملف من خلال دمج موقف أهم دولتين من الدول الضامنة لمسار أستانا، روسيا وتركيا.

محاولة بناء توازن دولي على الساحة السورية من خلال التكافؤ المُعلَن بين «شراكة واستقلال» يحمل مخاطر جمة تتمثل في أولًا: القواعد العسكرية ومواقع الانتشار الروسي؛ بل أدوات نفوذ يمكن أن تتحول سريعًا إلى شروط سياسية — سواء في الاتفاقات الاقتصادية أو «الإنسانية»، أو في صياغة السياسات الأمنية تجاه تركيا وإسرائيل أقوى دول الجوار السوري. ثانياً: تركيا، التي لطالما كانت اللاعب الأقوى على الساحة السورية حاليا، تنظر بريبة إلى أي محاولة لإعادة موسكو لهيمنتها العسكرية في الشمال الغربي، هذا التوتر الإقليمي والدولي يجعل من أي تفاهم روسي-سوري معضلةَ دبلوماسية يجب معالجتها بعناية.

الملاحظ أيضاً أن الخطاب الروسي نفسه تغيّر بشكل كبير، فموسكو، المقيدة بعقوباتٍ وضغوطٍ دولية عقب تحولاتها العسكرية في أوكرانيا، تبحث عن «حلقات اقتصادية» وفرص لإظهار استمرار تأثيرها في الشرق الأوسط من دون تحمّل تكاليف عسكرية إضافية كما كان في عهد بشار الأسد، وهذا سيقلب خسارتها ربحا من خلال البقاء عسكريا واقتصاديا، في حين تحصل دمشق على امدادات وموارد وغطاء يغطي الانكشاف أمام الأوربيين والأمريكان والإسرائيليين الذي ظهر بوضوح على مدى الأشهر الماضية خاصة بمسألة الجنوب والسويداء والعقوبات الاقتصادية.

الشارع السوري والنخبة السياسية تحديدا ترى في إعادة العلاقات مع الروس قبل الاعتذار والحديث عن تعويضات وحتى تسليم بشار الأسد، خيانة صريحة لدماء ضحايا التدخل الروسي العسكري و عموم شهداء الثورة، وهناك مخاوف من إعادة إنتاج التبعية المغلفة بادعاءات ضرورات المرحلة الحالية، ومن أن تكون عودة روسيا مُقايضةً بصلاحيات سيادية أو عقود إعادة إعمار تُملأ بشركات روسية تُهيمن على القطاعات الحيوية، وخاصة مع تعهد الرئيس الشرع باحترام كل المعاهدات والاتفاقات السابقة بين الدولتين مقابل احترام استقلالية البلاد وسيادتها وسلامة أراضيها، على أهمية هذا خلال فترة التهديد بتقسيم سوريا.

ربما يكون هذا الاختلاف بالرؤية بين الحكومة والنخبة السياسية بسبب عدم وضع الرأي العام بصورة نتائج اجتماعات الوفود الحكومية مع الأطراف الأخرى سواء داخل الدولة مثل قضية السويداء والجزيرة السورية أو مع الأمريكان والإسرائيليين والأتراك، خاصة مع غياب آليات شفافة للمساءلة الوطنية في دولة مازالت في طور التأسيس.

إذن كيف ينجح الشرع—إن كان يريد فعلاً تحويل «المصافحة» مع بوتين إلى ربح استراتيجي لسوريا على غرار مصافحة ترامب؟

يقترح بعض الخبراء أن تكون العلاقة الجديدة مع روسيا في اطار تنويع الشركاء، يجب أن تسير بخط زمني محدود وشفّاف للتعاون، يكشف الستار عن عقود إعادة الإعمار وإمدادات القمح مع ضمانات سيادية قانونية بخصوص القواعد العسكرية، التي يجب أن تشارك بمنع استباحة الأجواء السورية من قبل دول الجوار المعادية، إضافة إلى وجوب طرح ملف تحمل موسكو المسؤولية عن ضحايا الغارات الروسية في سوريا.

وفي النهاية، من المؤكد أن اللقاء بين الشرع وبوتين لم يأتي من فراغ بل من ضغوط أمريكية كبيرة، أو كما يقال: “لا يجبرك  على المر غير الأمر منه”، فتصلب المواقف الغربية والدعم غير المحدود لإسرائيل يدفع دمشق تاريخيا باتجاه القوى الدولية الأخرى، فإذا نجحت دمشق بتأطير الشراكة مع موسكو، وبتنويع شركائها، وبضمان سيادتها عبر أدوات قانونية ومؤسسية، فهذا سيحقق ما يرده الشرع.

دجلة