اسم الكاتب وصورته
صورة الكاتب محمـد العلـي

في بلدٍ يجثو على ركبتيه اقتصاديًا وعسكريًا بعد حربٍ مزّقت نسيجه الاجتماعي وخرائطه الجغرافية، يخشى السوريون من ابتزازٍ دوليٍ للحكومة الجديدة ربما يدفعها إلى التنازل عن أجزاء من ترابها أو سيادتها، ومن هذا المنطلق تُقرأ زيارة الرئيس المؤقت أحمد الشرع إلى البيت الأبيض على أنها لحظة فاصلة في إعادة ترتيب تلك الحسابات،  بعيدًا عن الجدل الدائر حول الشكليات — إن كانت الزيارة رسمية أم شخصية، ومن أي باب دخل الشرع — تبقى دلالتها السياسية الأهم.

الشرع، الذي صعد من داخل ساحة الصراع وبرز كقائد فعلي خلال سنوات المواجهة، نجح في أن يقدم نفسه كقوةٍ منضبطة مقارنةً بفوضى الفصائل الأخرى الممثلة للثورة السورية،  الانضباط ــ في زمنٍ تُقاس فيه الشرعية بالقدرة على الحضور الميداني والاحتفاظ بقدرٍ من الكفاءة الإدارية ــ منح تياره قاعدة شعبية أوسع من المتوقع، وهذا جعل واشنطن تعتبره مرشحًا عمليًا لشريك يضمن استقرارًا إقليمياً في مواجهة تمدد الجماعات المتشددة والنفوذ الإيراني.

على الأرض، تبدو المنافسة مع القوات الكردية (قسد) واضحة؛ إذ تعتمد الأخيرة أساسًا على الغطاء الأميركي ومكاسب مناطقية محددة، في المقابل، يملك الشرع دعمًا شعبيًا أوسع ضمن نسيج المجتمع العربي والسني، فيما تقتصر شعبية قسد على المجتمع الكردي قبل سقوط بشار الأسد، وعلى المتضررين من سقوطه بعد 8 كانون أول 2024.

وفي واشنطن، بدا أن اللقاء بين الشرع وترامب تجاوز الطابع البروتوكولي إلى اتفاقات عملية، فجرى الاتفاق عمليًا خلال لقاء البيت الأبيض على فتح سفارة في واشنطن، والإعلان عن تعليق مؤقت لتطبيق عدة بنود من قانون «قيصر» لفترة ستة أشهر (180 يومًا)، وهو ما يشجع الشركات والدول على العمل داخل سوريا والتعامل مع حكومتها، خاصةً بعد موافقة مجلس الأمن على مشروع القرار الأمريكي القاضي بشطب اسمَي أحمد الشرع وأنس خطاب من قوائم العقوبات الدولية، وشكّلت هذه الخطوة إشارةً عملية إلى بدء إعادة إدماج سوريا في النظامين المالي والتجاري الإقليمي والدولي.

إضافةً إلى بحث الاتفاق الأمني مع اسرائيل، تناولت المناقشات انضمام سوريا إلى التحالف الدولي ضد تنظيم «الدولة الإسلامية» (داعش)، بما يفتح آفاق تعاون أمني استخباراتي مشترك.

الشرع، الذي خرج من عباءة الفصائل المقاتلة، لم يطلع على واقع البلاد ومعطيات الصراع فقط، بل كان أبرز الفاعلين فيه رغم أن فريقه من أصغر الفرق العاملة وقتها، مقارنة بفريق بشار الأسد والجيش الحر والقوات الكردية، وكل فريق من هؤلاء كان يظن أنه الأكثر حظا في البقاء نظر للدعم الدولي الذي يتلقاه من الشرق أو الغرب، لهذا يقال أن الشرع – الجولاني فاجأ الجميع على المستوى المحلي والخارجي.

ومع هذا، لا يمكن أن ننكر العلاج الشكلي من قبل الحكام الجدد لدمشق لضرورة إقامة مؤتمر وطني وكتابة إعلان دستوري والانتخابات وتشكيل الحكومة المؤقتة، غير أن زيارة الشرع الأخيرة إلى البيت الأبيض تمثل تحولًا دبلوماسيًا غير مسبوق منذ استقلال سوريا عام 1946،  وهذا يعني أن واشنطن اختارت التحدث مع الرجل الأقوى في البلاد والقوة التي تملك الأرض والنفوذ، لا مع القوى التي كانت الإدارة الأمريكية أوالاسرائيليين وراء تأسيسها ثم دعمها وهو أساس البقاء والاستمرار لها، فالتواصل مع مظلوم عبدي وحكمت الهجري له سياق مختلف.

إذن، نجح الشرع في إعادة إدخال سوريا إلى الحلبة الدولية بعد عقدين من العزلة والعقوبات، ليس لأنه قدّم تنازلات للإسرائيليين كما يريد البعض القول، بل لأنه قدّم نفسه كضامنٍ للاستقرار في بلدٍ لم يعرف سوى الفوضى، ولإبعاد هذه الأوهام، أكد من واشنطن أن دخول اتفاقات سلام معهم غير ممكن لأنهم يحتلون الجولان، وهو قطعة من سوريا.

 الأميركيون، وسائر دول الغرب، لا يبحثون اليوم عن حليفٍ أيديولوجي، بل عن شريكٍ واقعيٍ يمكنه أن يضمن هدوء الحدود، ويقوّض نفوذ إيران العسكري، ويحدّ من تمدد الجماعات الإسلامية الراديكالية، والشرع، ببراغماتيته الباردة، قدّم نفسه في هذا الدور تمامًا بشكل عملي لأن مجرد وجوده على الساحة يجعل أنصار إيران خارج الحدود ووجوده على رأس السلطة يبعد التشنج الموجود لدى التيارات الدينية مع الأمريكيين ويحرم التنظيمات الأكثر تشددا من الذرائع لتجنيد الشباب في بيئة من الشحن الديني.

 في النهاية، قد لا يحبّه الجميع داخل سوريا، وقد لا يُعجب الأمريكيين والأوربيين تمامًا، غير أن الشرع يقف اليوم أمام اختبارٍ حقيقي، هو تحويل نفوذه الميداني إلى مؤسساتٍ مدنية قادرة على تمثيل جميع السوريين، لا مجرد أداةٍ لضمان بقائه السياسي.