رفع الصوت قبيل بيان مجلس الأمن

اسم الكاتب وصورته
صورة الكاتب محمـد العلـي

من يتابع المشهد السوري اليوم يدرك أن ما جرى في السويداء كارثة حقيقية ساهمت الأطراف السياسية بالتأسيس لها بالشراكة مع العامل الإسرائيلي، وهذا يوضح مستوى عمق الانقسام داخل المجتمع السوري، الذي يحتاج لجهد كبير وإرادة حكومية لمعالجته عبر الحوار وتغيير المسار.

إذن لم يكن اعتباطيا، انتشار فيديو يوثق قتل القوات الحكومية لمتطوع في مشفى السويداء، قبيل جلسة لمجلس الأمن، ترافق مع بيانات من مشايخ العقل تشكر إسرائيل وتتهم دمشق بالسعي لإبادة الدروز تحت ذريعة فرض السلطة على المحافظة لمنح نتنياهو حجة للدفاع عن مهاجمة العاصمة السورية، ثم عادت صور القتل والنزوح، وارتفع رقم المهجّرين إلى ما يقارب مئتي ألف، والنتيجة صدرت الإدانات الأممية المطالبة بضمان المساعدات ومحاسبة المسؤولين من قبل دمشق ومطالبة إسرائيل بالالتزام باتفاق فض الاشتباك لعام 1974.

لكن في خلفية هذه المشاهد المروّعة، تلوح ذاكرة جماعية مثقلة لدى السوريين ضحايا بشار الأسد بالأمس القريب، يراد لمظلوميتهم الاختفاء وتحويلهم لظلام في مناطق لم تعرف الحرب إلا من خلال عودة أبنائها قتلى بسبب مشاركتهم بصفوف الجيش السوري تحت قيادة سيهيل حسن وعصام زهر الدين وغيرهم من السفاحين.

هذه المناطق تجد نفسها اليوم أمام ما عاشته حلب والشمال السوري لعقد كامل: القتل، التدمير، والانزلاق الحتمي نحو مزيد من الدماء، رغم كل التحذيرات السابقة لمن تصدر المشهد في الساحل والسويداء وحتى بالجزيرة السورية بأن التصلب والمطالبة بأقاليم فيدرالية خاصة قبل استعادة الدولة السورية لعافيتها سيؤدي إلى حرب أهلية أو جولة ثانية من العنف في بلد أنهكته 14 عاما من المعارك.

الفيديوهات الأخيرة لا تدع مجالًا للوهم: أن كل من حمل السلاح، تحت أي راية كانت — من “توحيد البلاد” إلى “الفدرلة”، من “محاربة الإرهاب” إلى حتى راية إسرائيل — شارك في دائرة الانتهاكات، وكان صادقا بتهديداته التي أطلقها قبل خوض المعركة، وهنا لا تعود العاطفة كافية لندرك ما حصل، بل تتحول إلى سبيل يقودنا إلى تعميق شرخ خطير قد يبتلع ما تبقى من سوريا.

ومع كل هذا، تظل جذور الأزمة في الجنوب السوري ملغومة بوقائع لم يُرد البعض الاعتراف بها، مثل التسجيلات المسربة لشبان دروز أساؤوا إلى رموز دينية على رأسها النبي محمد عليه الصلاة والسلام وتعهدوا بـ”تطهير” المحافظة من عشائر البدو وشتموا أعراض العشائر في دير الزور وحماة، وهو ما أشعل فتيل الفتنة. تجاهل هذه الحقائق بدعوى أنها “مفبركة” لا يغيّر شيئًا، بل يؤجل الوقوع في الكارثة التالية.

وتأتي في سياق هذه الأحداث مؤتمر الحسكة، فرغم أنه يحمل اسم “وحدة الصف لمكونات الجزيرة” أخرجه حضور حكمت الهجري وغزال غزال من هذا الاطار إلى شكل دعائي يستبق انعقاد مجلس الأمن بشأن سوريا، فهذا المؤتمر الذي غابت عنه العشائر العربية فعليا، ضم أطرافًا تراها دمشق خصومًا، وحتى من حلفاء إسرائيل كالهجري الذي قصفت دمشق بطلب منه في لحظة بدت فيها الحكومة الجديدة ضعيفة سياسيًا ومحليًا فلجأت إلى لعب ورقة العشائر المحقنة أصلا بعد وصول نداءات نساء البدو من المشردات في بوادي السويداء.

بالنسبة للحكومة المؤقتة في دمشق، بدا المؤتمر تحديًا مباشرًا، بينما اعتبره منظموه ردًا على تهميشهم، المفارقة أن الحكومة نفسها كانت قد دعت سابقًا إلى مؤتمر وطني جامع تقول إنه مستمر لكنها لم تتحرك، تاركة الفراغ لغيرها من الخصوم الفعليين كالإدارة الذاتية للعب هذا الدور.

الخوف والقلق متبادل إذن، فدمشق تخشى من مشاريع تقسيم مقنّعة، والمعارضون لها يخشون من إعادة إنتاج الإقصاء القديم. وبين الخوفين، تقترب البلاد خطوة إضافية نحو حرب أهلية شاملة خاصة بعد بتهديدات صريحة من الشيخ الكردي مرشد الخزنوي حين قال مخاطبا مظلوم عبدي: “اذهب أنت وقسد فقاتلا إنّا معكم مقاتلون”.

ما تحتاجه سوريا اليوم ليس اقتناص المناسبات الدولية لتنظيم مؤتمرات متوازية تتنافس على الشرعية ولا نداءات لإسرائيل ترفضها الشرعية الدولية، بل إطار واحد يضم الجميع، لذا يجب العمل على إعلان دستوري مؤقت جديد، حكومة وحدة وطنية، لجنة لصياغة دستور دائم، وقانون انتخابي عادل. أي حل يفرض من طرف واحد سيعيد إنتاج الحلقة نفسها من الاستبعاد والانفجار.

الحقيقة، أحداث السويداء كانت كارثة ركضت إليها الحكومة بطريقة غريبة ربما نصب لها فخ فيها حقق أقصى أحلام الهجري في أن يقف وراءه معظم سكان المحافظة، أمّا مؤتمر الحسكة كان ارتدادًا لها ومحاولة لإيصال رسالة للمجتمع الدولي أنها الصورة المغايرة لحكومة دمشق رغم أنها تجاهلت شركاءها المفترضين من العشائر العربية، فوصلت الرسالة إلى عرب الجزيرة السورية مختصرة: إما أن تقبلوا بالفدرالية والخضوع لسلطة قسد أو سيكون مصيركم مصير عشائر السويداء الذين هجر منهم إلى درعا وحدها حسب المحافظ 30 ألف شخص.

نهاية القول، ما لم تترجم الدعوات إلى حوار شامل لخطوات ملموسة وعملية مع الاستعانة بالسياسيين الخبراء، فإننا لا نشهد سوى محطات على طريق أزمة أعمق وأطول وربما نحن على أعتاب فصل جديد شرق الفرات!