قبل أشهر فقط، كانت فكرة مصافحة بين رئيس سوري ونظيره التركي ضربًا من الخيال، لكن صورة أحمد الشرع إلى جانب رجب طيب أردوغان في منتدى أنطاليا الدبلوماسي 2025، تؤكد على أهمية التحول السياسي الذي تشهده دمشق نتيجة سقوط النظام السابق بعد سنوات من العزلة، القمع، والتبعية.

رفع الشرع في المنتدى شعار “الحوار والدبلوماسية”، كعنوان لمرحلة سياسية جديدة، تحاول طيّ صفحة سوداء من القطيعة والحروب، والبحث عن شراكات براغماتية تفتح الباب أمام تعافٍ تدريجي، يجب الإقرار بأن حضوره في المنتدى، بدعوة رسمية من أنقرة، لم يكن مجرد تمثيل شكلي، بل إعلان عن سياسة خارجية جديدة تقوم على التوازن، والانفتاح، وتخفيف الاصطفافات الحادة التي غرقت فيها دمشق لعقود.

اللقاء الأبرز في المنتدى جمع الشرع بأردوغان، في جلسة وصفتها مصادر تركية بأنها “هادئة وعميقة سياسيًا”، طُرحت خلالها ملفات شائكة: من الوجود الكردي في الجزيرة السورية إلى الاعتداءات الإسرائيلية المتكررة على المنطقة والوسطة والجنوب، وصولًا إلى مستقبل العلاقات الثنائية. الرسالة التركية بدت واضحة: أنقرة مستعدة لفتح صفحة جديدة، لكنها في الوقت ذاته، لن تسمح بعودة سوريا إلى دوامة الفوضى. وقد أرفق أردوغان موقفه بإشارات إلى تفاهمات مع كل من موسكو وواشنطن، ما يعكس عمق التنسيق الإقليمي والدولي الجاري خلف الكواليس رغم التشويش الإسرائيلي.

تسمية أردوغان للأحداث الأخيرة في سوريا بـ”ثورة 8 ديسمبر”، واتهامه إسرائيل بمحاولة اختراقها، تكشف عن إدراك تركي بأن ما يجري في سوريا ليس مجرد انتقال سياسي، بل لحظة صراع على من يرسم ملامح الدولة المقبلة، فتركيا لم تعد تنظر إلى سوريا بوصفها خصمًا جيوسياسيًا، بل شريكًا ممكنًا في مواجهة تهديدات مشتركة، أبرزها الانفصالية الكردية، وتداعيات الانهيار الاقتصادي، وتفكك الدولة.

لقاءات الشرع مع عدد من القادة الإقليميين، من كوسوفو وأذربيجان إلى قطر إلى كردستان العراق، أظهرت سعي دمشق لتوسيع هوامش تحركها. لكن التحدي الحقيقي يظل في الداخل، حيث لم تنطفئ بعد نار الأزمات المعيشية، ولا تزال ملفات العدالة الانتقالية والمحاسبة عالقة دون أفق واضح.

يدرك الرئيس الشرع، كما يبدو من خطابه، أن الاعتراف الدولي لا يُنتزع من المؤتمرات، بل يُبنى على مسارات واقعية تتضمن إصلاحات حقيقية، ومصالحة داخلية، وأن أي محاولة لتجاوز الداخل بالقفز إلى تحالفات خارجية، لن تؤدي إلا إلى إنتاج نسخة مشوّهة من النظام السابق، ما يجعل صرف معظم جهود السلطة الجديدة على السياسة الخارجية أمرا غير مفهوم!

وفي العرب، ثمة من يرى في انفتاح دمشق على أنقرة مخاطرة، خاصة مع ترويج بعض الأطراف الإقليمية لفكرة أن التعاون مع تركيا يفتح أبوابًا أمام النفوذ الأجنبي، ولا سيما الإسرائيلي. لكن هذا الطرح يتجاهل حقائق المصالح المشتركة بين البلدين: من مكافحة الإرهاب، إلى ضبط الحدود، إلى تسوية ملف اللاجئين، وهو الملف الذي لا يمكن لأي طرف تجاهله، وبسقوط نظام الأسد سقطت ذريعة وجود الميليشيات الإيرانية على حدود الجولان، واعتداءات إسرائيل ربما يكون له أثر عكسي يدفع دمشق نحو أنقرة خاصة إذا عجزت المجموعة العربية عن مساعدتها لتجاوز الأزمة.

على المستوى الدولي، يبدو أن الدول الغربية تترقب خطوات حقيقية من دمشق قبل المضي في تعليق العقوبات أو رفعها. العقوبات، التي تسحق الطبقات الفقيرة، لم تكن نتيجة خطاب سياسي بل نتيجة ممارسات موثقة، وسلوك سلطوي تفككت ركائزه بسقوط الأسد، لكنها لم تُلغَ من جذورها بعد. أي مقاربة جدية لفك العزلة يجب أن تبدأ من الداخل: بالمحاسبة، والإصلاح، وتكريس دولة القانون.

القيادة السورية الجديدة، مطالبة بإثبات أنها تريد حقًا بناء دولة في كل مناسبة، لا محاولة إدارة مرحلة انتقالية بأدوات وعقليات قديمة، فلحل مشكلة العقوبات، لا بدّ من معالجة الأزمات الداخلية بعمق وجدية، لأن الحلول الشكلية كالتي رافقت الحوار الوطني والإعلان الدستوري ستقابلها استجابات دولية مؤقتة، سرعان ما تتلاشى ما لم تُقدم دمشق على إصلاحات حقيقية تُقنع السوريين والعالم بجدية التغيير.

إن استعادة سوريا لمكانتها الإقليمية لن تمر فقط من بوابات أنقرة، أو عبر مصافحة سياسية هنا أو مشاركة هناك، بل من ورشات عمل داخلية تبدأ بإنقاذ الاقتصاد، وإنهاء مسألة الإفلات من العقاب، وإعادة الاعتبار للمواطن السوري بوصفه جوهر الدولة، لا مجرّد متلقيًا لتفاهمات الخارج.

بكلمة واحدة، لا مستقبل لسوريا ما بعد الأسد إلا إذا أصبحت مشروعًا وطنيًا جامعًا، لا ساحة صراع جديدة بين القوى المتنازعة على جثّة وطن.

محمـــد العلــــلي