ما كان يفترض أن يكون مشروعًا لتجميل أحد أبرز الشوارع التجارية في حي المفتي بالجزء الشرقي من مدينة الحسكة، تحوّل خلال أشهر قليلة إلى مصدر استياء واسع بين أصحاب المحلات والسكان، بعد أن فرضت “بلدية الشعب” التابعة للإدارة الذاتية الكردية رسوماً مرتفعة، وأطلقت مشروع رصف الشارع بالحجر الأسود، واجه انتقادات تتعلق بسوء التنفيذ، وغياب الشفافية في التمويل.
المشروع “عمل شعبي”!
في الثاني والعشرين من يوليو/تموز الماضي، أعلنت “بلدية الشعب في الحسكة” عبر صفحتها الرسمية على فيسبوك، انطلاق مشروع إعادة تأهيل شارع حي المفتي، متحدثة عن “خطة فنية متكاملة” تشمل إزالة الأرصفة القديمة واستبدالها بحجر الإنترلوك، ومدّ الشارع بالحجر البازلتي الأسود، مع استبدال شبكات الصرف الصحي وتركيب إنارة وتشجير الأرصفة.
ووصفت البلدية المشروع بأنه “عمل شعبي”، في إشارة إلى مشاركة أصحاب المحلات في تمويله.
لكن سرعان ما تبيّن أن المشاركة الشعبية المقصودة كانت إلزامية، إذ فُرضت على أصحاب المحلات رسوم مالية تراوحت بين 300 و3700 دولار أمريكي بحسب واجهات المحال، وفق آلية احتساب نشرتها صحيفة نورث برس في 17 أغسطس/آب 2025.
تعتمد الآلية على حساب طول واجهة كل محل مضروبًا بنصف عرض الشارع (ثمانية أمتار) ثم مضروبًا بـ16 دولارًا للمتر المربع، وهو ما أثار اعتراضات واسعة من قبل التجار الذين اعتبروا أن البلدية “حوّلت المشروع إلى مصدر تمويل بدلاً من كونه خدمة عامة”.
يقول أبو علي، صاحب محل لبيع الأحذية في سوق المفتي، في مقابلة مع راديو آرتا إف إم بتاريخ 26 أكتوبر/تشرين الأول:
“قالوا المشروع بيخلص بـ45 يوم، صار 3 شهور ونص، والشارع مسكر، وأرزاق العالم راحت… نحنا مو ضد التجميل، بس خربوا رزقنا، وحطّوا حجر ما بيمشي عليه لا سيارة ولا زبون.”، فيما أشار كثيرون إلى أن الحجارة الناتئة كانت تضر بدوزان السيارات ما يدفع الناس إلى تجنب المرور به.
وبحسب نورث برس، فإن بعض أصحاب المحلات دفعوا مبالغ تجاوزت 450 دولاراً، رغم أن رسوم الرخصة الإدارية السنوية في السابق لم تكن تتعدى بضع عشرات من الدولارات (بين 50 إلى 200 ألف ليرة سورية).
يقول أحدهم (رفض الكشف عن اسمه):
“دفعت 460 دولاراً، رغم أن رخصتي كانت بـ108 آلاف ليرة فقط. ما حدا حكى معنا قبل التنفيذ ولا وضّحوا شو طبيعة الرسوم.”
في المقابل، نفى القائمون بالمشروع الاتهامات المتعلقة بفرض رسوم باهظة على أصحاب المحلات، مؤكدين أن المشروع يجري “بمشاركة الأهالي وموافقتهم المسبقة”.
وفي مقابلة تلفزيونية بتاريخ 19 آب/أغسطس 2025، قال المهندس عبد الرحمن أحمد، المشرف على المشروع، إن البلدية “أطلقت العمل بثلاث مراحل” تشمل تكسير الأرصفة القديمة، وترحيل الأنقاض، ثم تبليط الأرصفة وزراعة الأشجار، وصولاً إلى المرحلة الثالثة التي تتضمن فرش الرمل وتركيب الحجر البازلتي والإنترلوك.وأوضح أحمد أن “نحو 90% من أصحاب المحلات وافقوا على المشروع”، وأن ما أثير حول مبالغ بين 3000 و4000 دولار “غير دقيق”، مشيرًا إلى أن ما جُمع من بعض أصحاب المحلات “هو رسوم الترخيص الإداري السنوي، جرى تخصيصه لدعم المشروع وليس كرسوم جديدة أو إلزامية”.
وأضاف أن البلدية “أعفت بعض التجار من الدفع لسنوات مقبلة تعويضًا عن مشاركتهم الحالية”، مؤكدًا أن العمل “أنجز بنسبة 50%” وقت المقابلة.
تأخير واحتجاجات… “حجر بـ10 دولارات بدلاً من 34”
رغم تحديد مدة تنفيذ المشروع بـ45 يوماً فقط، أكدت تقارير إعلام البلدية أن العمل تجاوز ثلاثة أشهر دون إنجاز فعلي، إذ توقفت الأعمال عدة مرات بسبب ما وصفته الدائرة الفنية بـ”تأخر وصول المواد” و”خلاف حول نوعية الحجر المستخدم”.
خلال مقابلة سابقة بثتها البلدية على صفحتها (20 أكتوبر/تشرين الأول)، تحدثت مسؤولة في الدائرة الفنية عن أن المشروع واجه خلافات حول نوعية الحجر وسعره، موضحة أن “الحجر المطلوب كان يُفترض أن تبلغ قيمته 34 دولاراً للمتر، لكن الموجود في الموقع لا تتجاوز قيمته 10 دولارات”، في إشارة غير مباشرة إلى تقليص الجودة بسبب التكاليف.
وتقول مصادر محلية إن المتعهد المنفذ لم يخضع لأي مساءلة علنية حتى الآن، رغم فشل مراحل التنفيذ الأولى، وتزايد الدعوات لإعادة المشروع إلى نقطة الصفر.
وفي 26 أكتوبر/تشرين الأول، شهد سوق المفتي احتجاجات من عشرات التجار الذين اعترضوا على استخدام الحجر الأسود بدلاً من الزفت، معتبرين أن ذلك ألحق أضرارًا بحركة السير والتجارة.
ووفق تسجيلات بثها راديو آرتا إف إم المحلي من موقع الاحتجاج، تجمع أصحاب المحلات أمام آليات البلدية ومنعوا العمال من استكمال المشروع، مطالبين بإعادة تزفيت الشارع وإزالة الحجارة.
حتى اليوم، لم تصدر بلدية الشعب في الحسكة بياناً رسمياً يوضح أسباب التوقف أو خطتها لاستكمال المشروع، رغم تعهدها سابقاً بأن “العمل سيُنجز بالكامل ضمن خطة 2025 لتحسين الواقع الخدمي في المدينة، لكن المهندس ماجد إسماعيل، رئيس البلدية، أكد في 23 أكتوبر أن المشروع جزء من خطة خدمية واسعة تشمل “المجبول الزفتي، الصرف الصحي، والنظافة العامة”، مشيراً إلى أن نسبة الإنجاز في سوق المفتي بلغت “نحو 70%”.
لكن سكان الحي يؤكدون أن ما أنجز فعلاً هو إزالة الزفت القديم وإغلاق الشارع، فيما بقيت الأعمال معلّقة منذ أسابيع.
ويشير ناشطون محليون تداولوا صور الاعمال في الشارع إلى أن هذا المشروع ليس الأول الذي يثير الجدل في المدينة، إذ شهدت مناطق أخرى مثل غويران والعزيزية والنشوة مشكلات مشابهة تتعلق بجودة أعمال “المجبول الزفتي” وسرعة تدهور الطرق بعد انتهاء التنفيذ، بحسب تقارير إعلامية.
إزالة الحجارة السوداء
في الثالث من نوفمبر/تشرين الثاني 2025، نشرت نورث برس تقريرًا جديدًا أكد أن بلدية الحسكة بدأت بإزالة الأحجار التي كانت قد وضعتها في المشروع ذاته قبل أسابيع، بعد تلقيها شكاوى من السكان والتجار.
وذكرت الصحيفة أن عمليات الإزالة شملت الحجر الأسود البازلتي الرديء الذي تم تركيبه في الشوارع الفرعية، وأن البلدية تدرس “استبداله بمواد جديدة” ضمن خطة إعادة تقييم للمشروع.
مصادر داخل الدائرة الفنية في البلدية قالت إن سبب التراجع يعود إلى “ملاحظات هندسية تتعلق بتسوية الأرض وسوء التصريف المائي”، لكن ناشطين محليين يرون أن التبرير جاء بعد ضغط شعبي واسع واحتجاجات متكررة.
