محمد الحسون – دجلة نت
أسنان اصطناعية كان يستخدمها عمي الأصغر لطحن الطعام رغم قوة بدنية كبيرة اكتسبها من ممارسة رياضات عديدة لم أكن أعرف تعدادها، حتى أحدث لي منها أبي ذكرا، فهي المصارعة والملاكمة والرماية وآخرها “الحورة” وهي لعبة ربيعية موسمية منتشرة في مناطق الجزيرة السورية عامة تعتمد على كرة خشبية وعصي من السنديان.
علمت أن عمي ابراهيم فقد أسنانه قبل عشرين عاماً نتيجة تعرضه لإصابة بكرة خشبية خلال ممارسة لعبته المفضلة ذات ربيع كسا مروج الشامية ببساط أخضر مطرز بأزهار البابونج وشقائق النعمان، تماماً كربيع عام 2017، الذي شهد عودة خجولة للممارسة هذه الرياضة الخطرة، والتي غالباً ما تنتهي بإصابة لا عيبيها بكسور بالأطراف أو كدمات قاسية إن أصابتهم الكرة المصبوغة بلون العشب بعد تقاذفها بين عصي لاعبي الفريقين.
كلما عاد الربيع عبر العم ابراهيم عن شوقه لمشاركة الشباب لعبة “الحورة” ضد فريق القرية المجاورة، وهي لعبة الكرة الخشبية والصولجان، تشبه لعبة الهوكي مع بعض الاختلافات كما ذكر في كتاب “قبائل بدو الفرات” للرحالة البريطانية الليدي “آن بلنت”.
الحورة لعبة الربيع، كانت مشهورة في الجريرة يلعبها الشبان والكبار، يستخدمون فيها عصي بطول نحو متر لها رأس سميك يطلق عليها في هذه الحالة اسم “الجناة” محلياً، يضربون بها الكرة (الدكش/ الصرع) خلال محاولة كل فريق أن يوصلها إلى الخط الذي خلف الفريق الخصم وغالباً ما يكون قرب القرية المجاورة.
ولا تنتهي اللعبة إلا باستسلام أحد والفريقين على حد قول الدكتور “أحمد الدريس” مدير ثقافة “الحسكة”، فالفريق الخاسر يذبح شاة من الغنم ليأكل منها الفريق الفائز فقط إلا إذا سمح للفريق الخاسر بمشاركته الطعام، وأحياناً تدوم اللعبة أكثر من أربع ساعات متواصلة إذا كان الفريقان متكافئين من حيث القوة والصلابة.
وعن مضار اللعبة ومشاركة النساء نقلت “مدونة وطن” قبل 7 سنوات عن إدريس قوله: إن هناك عرف ريفي وقبلي خاص باللعبة فحواه “لا يوجد ثأر للذي يصاب أثناء اللعبة” مهما كانت إصابته بالغة بل يؤخذ الأمر بكل روح رياضية ودون أي خصومة.
أحد طقوس طلب المطر
فترة ليست بقصيرة تسبق هطول الأمطار الربيعية في الجزيرة السورية، تشهد دعوات لأئمة المساجد لتأدية صلاة الاستسقاء في جميع القرى والبلدات بسبب انقطاع الأمطار واجتياح الموجات الغبارية للمنطقة، فظهرت من جديد عادات وطقوس قديمة كان السكان ينفذونها اعتقاداً منهم أنها ستجلب لهم المطر منها “حورة النساء”.
يرى الحاج “أحمد الوكاع” أحد سكان مدينة البو كمال شرق دير الزور أن ترك النساء يمارسن لعبة “الحورة” هي إحدى العادات القديمة لطلب الرحمة من الإله ليرسل المطر مدراراً إلى المنطقة التي يصيبها الجفاف والجدب.
وهنا تتحول النساء من مشجعات للرجال في اللعبة إلى لاعبات في فريقين يتداولن “الدكش” (كرة الخشب) بالعصي المخصصة لها، رغم احتياج هذه الرياضة لقوة بدنية وشجاعة كبيرتين، وذلك كنوع من التذلل علّ الرب يرسل مطر آذار، الذي “يحيي البار والما بار”، كما يقال.
وكان دور النسوة في اللعبة الحقيقة يقتصر على الزغاريد وترديد بعض الأغاني الحماسية التي ترفع من الروح المعنوية لدى اللاعبين إضافة لتضميد الإصابات في حال حصولها، حسب ما تذكر المراجع والأبحاث المهتمة بعادات شرق سوريا.
الشجار الجماعي وارد
رحم الله الأولين يقول أبو عويد، لعبت هذه اللّعبة في صباي مع شباب ورجال القرية وكأننا نشن هجوماً كاسح ضدّ قريّة أخرى مجاورة فما على تلك القرية المستهدفة إلّا التصدّي لهذا الهجوم لتذود عن حرم القرية ومن ثمّ القيام بمحاولة هجوم معاكس لإعادة كرة الخشب إلى قريتنا إن استطاعت ذلك.
أمّا الانتصار في هذه اللعبة التي تشبه معركة حامية الوطيس لخطورتها ولكثرة الإصابات والدماء في سجالها هو إيصال (الدگش) إلى حرم القرية الخصم وأحيانا يصل الأمر لمشاجرة جماعية بين اللاعبين بسبب ارتكاب خطا ما أو بعض الحساسيات السابقة بين الطرفين يقول أبو عويد.
يشجع الرجل السبعيني شبان قريته، الذين دفعتهم حياة الفراغ وانعدام وسائل التسلية مع انقطاع التيار الكهربائي لإحياء المزيد من ألعاب مارسها الآباء والأجداد مثل، لعبة “الفنيجيلة” و”الحاح” وكل لعبة تلعب بفصل معين من فصول السنة، ولا مانع لديه من تبديل الكرة الخشبية في “الحورة” بكرة مطاطية أو جلدية حتى لا تؤذي من تصيبه خلال اللعبة وتتحول من المتعة إلى الأذى والخصام والمشاكل ما يقتل الهدف الأساسي منها.