لم يكن غريباً فوز عبد الله عبد الله على حساب مجموعة من المرشحين بينهم ثوار من رأس العين، فالمشهد لم يكن انتخابياً بقدر ما كان انعكاساً لتشرذمٍ داخليٍّ وعشائريةٍ قاتلةٍ أطاحت بفكرة التمثيل الحر، تماماً كما لم يكن وصول هيئة تحرير الشام إلى الحكم في سوريا بعد سقوط بشار الأسد مفاجئاً، فالنتيجة كانت ثمرة انقسام الفصائل وتنازع الولاءات الخارجية مقابل الانضباط والتنظيم والطاعة لعناصر الهيئة.
في تلك اللحظة، صعد نجم أحمد الشرع، وخفتت أضواء القادة السياسيين والعسكريين الذين خرجوا من رحم الثورة على شكل قادة فصائل وهيئات سياسية، لأن الرجل امتلك ما لم يمتلكوه: تنظيماً منضبطاً وقوةً موحّدةً في لحظة انهيار الخصوم.
وفي رأس العين شمال الحسكة، جاءت الانتخابات الأخيرة لتؤكد النتيجة نفسها: توجيهات محددة وولاءات متشابكة جعلت العملية الانتخابية أبعد ما تكون عن تمثيل الإرادة الشعبية، خمسة مرشحين فقط من أبناء المدينة المحسوبين على الثورة خاضوا السباق في هيئةٍ لا يتجاوز عدد ناخبيها خمسين شخصاً، نصفهم تقريباً من أنصار المرشح الفائز، فيما توزعت بقية الأصوات — وعددها نحو عشرين — بين العشائر على أساس الولاء والانتماء.
في نهاية اليوم، خسر الجميع: المرشحون، والمدينة، وحتى فكرة الانتخاب ذاتها رغم تبريرات البعض بأنهم يريدون نجاح الأكثر كفاءة، والسبب واضح — فالهيئة الناخبة صُممت مسبقاً لضمان فوز عبد الله عبد الله، المدعوم من تحالفٍ يجمع حزب التحرير والإخوان المسلمين وعشائر الغُمر وبعض الأقليات. هندست اللجنة الفرعية — بزعامة عبدالله الجشعم وشريكه بالحياة العملية والسياسية رسطام التمو — المشهد بدقة، فتحول المراقبون إلى لاعبين، والمنافسة إلى إجراء شكليّ يساهم بنجاح المنافس من خلال التفرق.
لم تكن النتائج مفاجئة، بل متوقعة بالكامل. فإقصاء ثلاثة عشر اسماً من أنصار الثورة ونشطاء المدينة تمّ بحججٍ إدارية، بينما سُمح بترشح شخصيةٍ لا يعرفها أبناء رأس العين إلا من خلال صلاته بالرقة وحلب وإدلب، وهكذا، تحوّل الانتخاب إلى تصديقٍ على قرارٍ مُسبق، لا إلى منافسةٍ بين رؤى وبرامج.
الحديث عن “توجيهات حكومية” وتلاعبٍ بالقائمة الناخبة جعل العملية تفتقر إلى أي مظهر من مظاهر الشفافية، لكن العامل الحاسم بقي تشتت المرشحين المنافسين، فمرشح قبيلة حرب حصد تسعة أصوات، فيما توزعت بقية الأصوات بين واحد وستة لكل مرشح، وهي أرقام تكفي لتكريس فوز من استعد جيدا وعقد التحالفات، وهذا أمر مشروع في لعبة السياسة.
الأصوات الرافضة للنتائج وصفت ما جرى بأنه “تزويرٌ شرعيٌّ” جرى أمام الكاميرات، محاولةً لإرضاء المراقبين الأجانب بواجهةٍ شفافةٍ زائفةٍ، لكنها لم تُقنع أحداً — لا الشارع المحلي ولا من تبقّى من نشطاء الثورة.
يتجاوز أثر هذه الانتخابات السياسة إلى المجتمع نفسه، إذ يحذّر ناشطون من شرخٍ جديدٍ داخل المدينة المنقسمة أصلاً بين العرب والكرد، بعدما جاءت النتائج لتقسّم المكوّن العربي بين تحالفاتٍ عشائريةٍ متنافسةٍ، وتُقصي من حملوا شعارات الثورة لصالح ولاءاتٍ مغلقةٍ.
في المحصلة، كانت انتخابات رأس العين نسخةً مصغّرةً من الواقع السوري: صناديق تُفتح وتُغلق، لكن القرار يُصنع في مكانٍ آخر. ورغم كل شيء، يبقى الرفض العلني الذي أبداه نشطاء المدينة موقفاً نادراً يستحق التقدير، لأنه يذكّر بأن ما جرى لم يكن ممارسةً ديمقراطية، بل شكلية تُقدَّم للعالم كدليلٍ على الاستقرار، فيما الحقيقة تقول إن الخلافات بدأت من هنا — من صندوقٍ كان يجب أن يُفتح على الأمل، فانفتح على الإقصاء.
