خطاب الكراهية
وصف سكان الجزيرة، سواءً كانوا عربًا أو كردًا، بمصطلحات تحقيرية مثل “شوايا” أو “بويجية”، فإن ذلك يتجاوز كونه رأيًا شخصيًا ليصبح تعبيرًا عن خطاب كراهية مُمنهج خاصة ونحن نشهد هذه المرحلة “الانتقالية” حربا “فيسبوكية” وربما على جميع مواقع التواصل الاجتماعي بين المجتمعات السورية المتنوعة وهي ظاهر سلبية ناتجة عن خروج جميع السوريين من سجن الأسد، الذي كان يضم المعتقلين في السجون البيتونية ومن يعشون ضمن مناطق سيطرته وربما عدد كبير ممن يعيشون في المهجر لكن ذويهم تحت سطوته .
فهذا النوع من الخطاب لا يستهدف الأفراد فقط خلال هذا التراشق في ساحات الإنترنيت، بل يعمل على تشويه هوية مجتمعات بأكملها، وإقصائها من المشهد الوطني عبر تصويرها كمجموعات متأخرة وغير مؤهلة للمشاركة في صنع القرار أو ربما “غير وطنية” استنادا على ارتباط حزب أو تيار من هذا المجتمع أو ذاك بدولة ما تدعمه عسكريا وسياسيا رغم أنه لا يمثل هذه المجتمع بالكامل.
مثل هذه النظرة الدونية ليست وليدة اللحظة، بل هي انعكاس لموروث طويل من الاستعلاء الثقافي والاجتماعي الذي تبنّته بعض النخب في سوريا تجاه مناطق بعينها جعلت بعض “مثقفي الجزيرة” وشعرائها يتبنون هذه المصطلحات بكتاباتهم بعد عجزهم عن محاربة هذا الهجوم الواسع والقديم. الجزيرة السورية، بثرائها الثقافي والتاريخي، ظلت هدفًا لهذا الخطاب التحقيري حتى في الأعمال الدرامية والسينمائية حتى تلك التي تحاول النيل من هيبة السلطة القمعية وتدعو للحرية كانت تصم فئة بعينها بصفات غير جيدة -إذا أردنا تخفيف قساوة الوصف- أو تصورها بشكل استفزازي أو ساخر، فالجزيرة الفراتية رغم كونها سلة الغذاء الوطنية والمصدر الرئيسي للثروات الزراعية والنفطية، كما وصفها بشار الأسد ذات يوم أهملت وجوّع السكان وحرم من يقيم بالمناطق الحدودية منها حتى من المواطنة بحجة ولاء عربها للعراق وكردها لإقليم كردستان شمال العراق.
عصر التهميش انتهى !
تهميش الشرق السوري لم يعد ممكنا كما كان في الماضي. أبناء الجزيرة، كردًا وعربًا، أصبحوا يدركون دورهم الحيوي وأهميتهم الاقتصادية والاستراتيجية، فالمنطقة اليوم ليست بحاجة لمن يضعها في دائرة الضوء؛ فقد بات أبناؤها أنفسهم يقودون هذه المهمة، سواء داخل سوريا أو في الشتات.
لكن، من الضروري الاعتراف بأن تأخير ربط الحسكة والرقة ودير الزور بدمشق عقب انهيار نظام الأسد استنهض الصورة النمطية لدى طلاس وأمثاله عن المناطق الشرقية، التي عاشت على مدى عقود حالة من سياسة “استعمار داخلي”، حيث تم استنزاف خيرات المنطقة لصالح حلب ودمشق، دون أن تعود هذه الثروات بفائدة ملموسة على سكانها، بل كانت العائلة تدفع ما فوقها وتحتها-كما يقال بالسوري- ليدرس أحد أولادها في الجامعات على بعد مئات الكيلومترات. هذه السياسة لم تكن لتنجح لولا تواطؤ النخب المحلية التي اختارت الالتحاق بمؤسسات المركز بدلًا من بناء مؤسسات محلية تعكس خصوصية مناطقهم وتدافع عن مصالحها.
النخب المحلية في الجزيرة السورية، سواء خلال حكم النظام أو في خضم الثورة، لم تتمكن من أداء دورها بالشكل المطلوب. بدلاً من استثمار موارد المنطقة وبناء مؤسسات تعكس ثقافتها وخصوصيتها، فضّلت الكثير من هذه النخب الالتحاق بمؤسسات دمشق أو حلب، ما ساهم في استمرار التبعية واستنزاف الموارد. حتى خلال الثورة السورية، لم يظهر حراك جاد لتأسيس كيان سياسي أو اجتماعي أو عسكري بشكل مستقل فسقطت فريسة لتنظيمات اجتاحتها من الجنوب ومن الشمال.
دور النخب العربية
الحل لا يكمن في إعادة إنتاج الماضي، بل في صياغة رؤية جديدة تستند إلى الوحدة والاعتراف بالتنوع الثقافي والاجتماعي في هذا الجزء من البلاد، يجب أن تتكاتف النخب العربية لتفرض رؤيتها على الإدارة الكردية بعيدا “سالفة الأكثرية والأقلية” أو أي دافع عنصري، ثم لوضع مطالب واضحة ومحددة تُفرض على دمشق، تمامًا كما فعل إخوتهم الكرد، ومن هذه المطالب: توزيع عادل للموارد ورفض تحويل الجزيرة لمجرد “سلة غذاء”، بناء مؤسسات محلية مستقلة وجامعات، تمكين أبناء الشرقية من المشاركة في صنع القرار الوطني على قدم المساواة مع باقي المناطق.
لماذا تستمر مناطقنا في لعب دور “سلة الغذاء” لدمشق وحلب بالمجان، بينما تبقى خارج حسابات السياسة والتنمية والخدمات؟! هذا الواقع، الذي استمر لعقود، يجب أن ينتهي. فالجزيرة ليست مجرد منطقة زراعية أو مصدرًا للنفط؛ هي جزء لا يتجزأ من النسيج السوري، بسكانها وثقافتها وتاريخها.
وهنا نكرر، على أبناء الشرق السوري أن يدركوا أن تحقيق العدالة لهم يبدأ من الداخل، بوضع رؤية مشتركة توحد العرب للاتفاق مع الكرد حول حقوقهم ومطالبهم، والابتعاد عن لعب دور العصا الغليظة التي تهدد بها دمشق الأحزاب الكردية كما فعل نظام الأسد سابقا، ما دفع هذه الأحزاب لرفض وجود أي سلاح بيد العرب سواء تحت مظلة النظام السابق أو تحت راية الثورة السورية لاحقا.
وفي هذا السياق، يأتي كلام فراس طلاس – بمنشوره– عن المظلومية والتهميش لأهل الجزيرة مع ذكر الكرد ما يثير الحساسيات، لا يمكن فصلها عن محاولات إعادة إنتاج خطاب الانقسام والتفرقة. هذا الخطاب، الذي يختبئ أحيانًا خلف ستار التعاطف أو النقد، يحمل في طياته أجندات النظام السابق، بدلا من التأكيد على ترسيخ مفهوم “المواطنة” في دولة اسمها سوريا، لتجنيب المنطقة حربا جديدة ذكرها قائد القوات الكردية (قسد) بتصريحاته لوسائل الإعلام العربية خلال تحذيره من تدخل تركي جديد أو استخدام القوة لحل القضية.
على السيد طلاس، إدراك أن التهميش الذي تحدث عنه لم يبدأ اليوم، بل كان نتاج عقود من السياسات الممنهجة في عهد حزب البعث، الذي كان والده، العماد مصطفى طلاس، أحد أبرز مهندسيه. استمرار هذا الخطاب لا يضيف جديدًا سوى تعميق الجراح والشروخ في المجتمع السوري، في وقت تحتاج فيه الجزيرة وسوريا بأكملها إلى خطاب يوحّد لا يُفرّق.
نهاية القول، السوريون خارج الجزيرة ينظرون لشعبها، عربًا وكردًا، نظرة دونية تعكس خطاب الكراهية والتهميش، هذه النظرة يجب أن تتغير، لكن ذلك لن يحدث إلا إذا قرر أبناء المنطقة الشرقية تغيير واقعهم بأنفسهم ومقاربتهم للواقع فهم يخرجون اليوم باعتصامات واحتجاجات راح ضحيتها شبان وجرح العشرات ليقولوا نحن مع دمشق لا مع الإدارة الذاتية الكردية، هل هم مجبرون على الاختيار بينهما؟؟! فالتحدي اليوم هو بناء رؤية موحدة تُخرج جزيرة دجلة والفرات من دائرة الاستغلال إلى دورها الحقيقي كجزء من البلاد وقوة سياسية أساسية لا غنى عنها في سوريا المستقبل.