على مدى سنوات طوال شكلت مكتبات حلب السورية ذاكرة لسكان المدينة ومقصدا رئيسا لمثقفيها وطلابها وغيرهم من المهتمين بالشأن الثقافي، وكان لا يخلو شارع من شوارعها من مكتبة تعكس وجه الألق الفكري والحضاري الذي كانت تتمتع به عاصمة الشمال السوري.
وحتى مطلع تسعينيات القرن الماضي استمرت مكتبات حلب في الحضور ضمن المشهد الثقافي والفكري وكانت أهمها تنتشر في أحياء حلب القديمة والجميلية وشارع القوتلي العريق، قبل أن تعصف بها رياح التغيير وتتحول إلى مشاريع تجارية بعيدة عن الكتب والقراءة، تحت تأثير الضائقة الاقتصادية وبروز دور شبكة الإنترنت محلها.
وأخيرا، غيّب التطور العلمي وانتشار الكتب الإلكترونية دور المكتبات والكتاب، وأصبح الوصول إلى أمهات الكتب أمرا متاحا أمام الجميع، ولا يستغرق الجهد والمال، عدا عن تدهور الوضع المعيشي وانحدار الاقتصاد السوري وانهيار قيمة العملة، الأمر الذي دفع السكان إلى البحث عن الرغيف قبل الكتاب.
ولا يمكن لأبناء مدينة حلب أن ينسوا مكتبة عجان الحديد العريقة التي أنشئت قرب الجامع الأموي الكبير بحلب القديمة في عام 1787م، حيث تمكن حامد عجان الحديد (أحد ورثتها) (1892-1976م) من جلب أهم الكتب والمؤلفات الجديدة إلى مكتبته عبر رحلاته إلى إسطنبول والهند ومصر والمغرب.
استمرت مكتبة عجان الحديد قرابة 220 عاما بلعب دور ثقافي فريد في حلب، قبل أن تتحول إلى محل تجاري لبيع الأقمشة وآلات الخياطة، ليدمر مكانها أحد البراميل المتفجرة التي ألقتها مروحيات النظام السوري خلال سنيّ الثورة السورية.
الكاتب والباحث السوري عمر كوش يقول إن المكتبات في حلب “كانت خلال الستينيات والسبعينيات تشكل الرئة التي كنا نتنفس بها؛ من قراء للكتب ومهتمين بالشأن الثقافي ثم منتجين له، خاصة المكتبات العريقة كمكتبة الأصمعي وعجان الحديد، التي للأسف التي دمرها نظام الأسد”.
ويستحضر كوش -في حديث للجزيرة نت- ذكرياته حول مكتبة الفجر التي كانت تعرض كتب الفكر اليساري والماركسية وتمثل معلما مهما في حلب، لكن سقوط الاتحاد السوفياتي أدى إلى تراجع مبيعات المكتبة بتراجع الطلب على الكتب اليسارية، ليحوّلها صاحبها بعد ذلك إلى محل لبيع الكنافة النابلسية.
ويرى كوش أن حال الثقافة بسوريا حاليا أشبه بـ”التصحر الثقافي نتيجة ممارسات النظام الكاره للثقافة والمثقفين”، مشيرًا إلى أن المكتبات الآن هي ذكريات ممزوجة بالشجن والأسى للحال الذي وصلت إليه سوريا.
نوبل في دمشق
وقبل نحو عام ودّع مثقفو سوريا ودمشق بين مقيم ومهاجر خارج البلاد مكتبة “نوبل”، إحدى أعرق مكتبات العاصمة السورية دمشق، بعدما أعلن القائمون عليها أنها ستغلق أبوابها إلى الأبد، لتسدل الستار على فصل بارز من فصول الفكر.
ولمكتبة نوبل الواقعة في شارع ميسلون خصوصية كبرى لدى الدمشقيين، إذ اضطلعت طوال أكثر من 5 عقود بتقديم الثقافة والعلوم والفلسفة للقرّاء وطالبي العلم، في وقت كان فيه الكتاب خير جليس في الأنام، كما قيل.
وشهدت فترة ما بعد الإعلان عن الإغلاق حالة أشبه بمجلس العزاء والرثاء بين رواد الفكر السوريين على مواقع التواصل الاجتماعي، بعد أن أصبحت تلك المواقع بديلًا افتراضيا عن القاعات ودور الكتب، جراء الحرب في البلاد وهجرة الأدباء والمفكرين.
ويرى القاص والصحفي السوري خطيب بدلة أن هناك علاقة نفسية وروحية تربط المثقفين بالمكتبات، “فمعارفهم وثقافتهم تشكلت، عبر السنين، من خلال كتب اشتروها من تلك المكتبات، وأحيانا يلتقي اثنان أو ثلاثة منهم في إحداها”.
ويقول بدلة في حديث للجزيرة نت “بالإمكان أن نلتمس عذرًا للأدباء والمثقفين الذين ما زالوا يعيشون داخل سوريا، إذا هم حزنوا على إغلاق مكتبة أو مقهى يمكنهم زيارته عندما يريدون، ولكن من غير المفهوم أن يبكي على المكتبات مثقفون هاربون أو منفيون”.
ولا تبدو مكتبة نوبل الوحيدة التي واجهت مصير الإغلاق في دمشق، إذ سبقتها إلى ذلك المصير مكتبات مثل ميسلون التي تحولت إلى مكتب للصرافة المالية، واليقظة التي غدت متجرًا لبيع الأحذية.
الدور المهاجرة
ومع هجرة ملايين السوريين إلى دول الجوار والعالم، استمرت بعض دور النشر والمكتبات بالعمل مستفيدة من تجاربها السابقة، فأحدثت دور نشر ومكتبات جديدة في تركيا الجارة القريبة التي تضم أكثر من 3 ملايين ونصف مليون لاجئ سوري.
الكاتب والصحفي السوري محمود الوهب أكد أن دور النشر المهاجرة منها والباقية تعاني أيضًا ارتفاع الأسعار، وارتفاع تكلفة المعارض وعدم القدرة على حضورها أحيانًا، إضافة إلى شدة الرقابة على الطباعة في معظم البلاد العربية.
ويعتقد الوهب أن “الرقابة لم يعد لها طعم في هذا الزمان، فشبكة الإنترنت كشفت المستور، وهي مباحة للجميع”، معتبرا أن الإنترنت “منافس لا يقاوم، إذ يسهل القرصنة التي كانت تحارب سابقًا”.
وأشار الوهب إلى وجود كتّاب في المرحلة الراهنة يعرضون كتبهم بالمجان، “أفضل لهم من أن يتكلفوا نفقات مالية لا يقدرون عليها ولا أحد يتعرف إلى إنتاجهم”.