بعد أسابيع قليلة من هروب بشار من سوريا إلى روسيا ظهر الرئيس الجديد أحمد الشرع يقف على أنقاض نظام الأسد محاولًا إعادة رسم مشهد السلطة في مدن رئيسية كانت حتى وقت قريب بؤرًا لصراعات سياسية وعسكرية حادة، بدءًا من إدلب، مرورًا بعفرين، ومن ثم حلب واللاذقية وصولًا إلى طرطوس، جاءت هذه الجولة في توقيت حساس داخليا وخارجيا بعد مؤتمرات دولية بشأن سوريا في أوربا أثيرت فيها قضية التوترات الداخلية بحمص وحماة.

لم يكن اختيار هذه المدن عشوائيًا، إدلب، المعقل السابق لفصائل الثورة السورية، والتي حملت رمزية خاصة كونها شهدت استقبال موجات كثيرة من النازحين سواء نتيجة المعارك أو نتيجة اتفاقات تهجير فرضها نظام بشار الأسد وحلفائه الروس والإيرانيون .

 ومن هنا، يوجه الرئيس الجديد رسالة مفادها أن مرحلة ما بعد الحرب قد بدأت، وأن زمن الفوضى يقترب من نهايته، وأن دمشق لن تُدار وفق قواعد الماضي، وأن الدولة تعيد بسط سيادتها، ولو بطريقة غير مباشرة، وربما يؤكد هذا الكلام تصريحات مظلوم عبدي قائد القوات الكردية في الجزيرة السورية حول مباركة تنصيب الشرع رئيسا للفترة الانتقالية ثم دعوته لزيارة محافظات الشرق.

وهي تصريحات جاءت كنتيجة لزيارة عفرين، ذات الغالبية الكردية، فقد كانت محطة مفصلية في الجولة الرئاسية، المدينة التي شهدت صراعات بين القوات الكردية (بدعم روسي – ونظامي) وفصائل الجيش الوطني (بدعم تركي)، واليوم مسألة إعادة السكان الكرد إليها مكان بحث في المفاوضات الجارية بين دمشق وقسد، فاختيار عفرين قد يكون إشارة إلى أن دمشق منفتحة على تسوية مستقبلية تعيد رسم معادلة السيطرة في الشمال السوري.

أيضا اللقاءات مع ممثلي الطوائف والمجتمع المدني في حلب أعطت إشارة إلى توجه دمشق نحو استيعاب التنوع الاجتماعي في المدينة وإعادة بناء الجسور مع المكونات التي بقيت متوجسة من سياسات ما بعد الحرب، ولأن حلب، ثاني أكبر مدن البلاد، وعاصمتها الاقتصادية حملت الزيارة دلالات واضحة على رغبة الحكومة في طمأنة قطاعات واسعة من السكان، خصوصًا مع استمرار أزمة الكهرباء والمياه والعقبات أمام كل ما يساهم في تدوير عجلة الاقتصاد، والتي يُعزى جزء منها إلى سيطرة أطراف أخرى على الموارد الحيوية كسدود الفرات وحقول القمح والنفط بالجزيرة.

أما في اللاذقية، والتي تعد تقليديًا معقلا لعائلة الأسد، فكان للزيارة وقع خاص، اللقاءات مع زعماء الطائفة العلوية والفعاليات الاقتصادية والاجتماعية حملت بعدًا داخليًا، مفاده أنه يجب القضاء على أي قدرة لفلول نظام الأسد على استقطاب ولاء مناطقها التقليدية، خاصة  بعد حديث الحكومة الجديدة عن إعادة النظر في اتفاقيات القواعد العسكرية الروسية في طرطوس وحميميم ، ثم الحديث عن انفتاح سوري على العلاقات مع موسكو بعد اتصال الرئيس الروسي فلادمير بوتين بالشرع.


الأمريكان أكدوا أنهم اللاعب الأكبر على الساحة السورية من خلال تنفيذ ضربة جوية قتلت شخصين في بلدة أورم الجوز بريف إدلب، قبيل مرور الرئيس السوري على طريق M4 الاستراتيجي الذي يربط  حلب باللاذقية، التوقيت والطريقة يشيران إلى أن واشنطن تراقب عن كثب إعادة تموضع دمشق سياسيًا وعسكريًا خاصة مع التوترات التي حصلت على الحدود مع لبنان.

والنتيجة، الجولة جاءت للتأكيد على استقرار الحكم ودليل لإعادة التموضع السوري الجديد، ورسالة للمجتمع الدولي، الذي يستثمر بماضي الرئيس الشرع لانتزاع تنازلات، فتقول دمشق: إن الأقليات صوتها يصل إلى دمشق. وهذا سيكون صدى لنداءات برلين وباريس يتردد في العاصمة السورية، خاصة أن فرنسا تلعب دورًا محوريًا في المفاوضات حول مستقبل المناطق التي تسيطر عليها قسد الرافضة للاندماج بالجيش الجديد.
           

بينما تسعى دمشق إلى تقديم هذه الجولة كدليل على استقرار الحكم وإعادة بسط النفوذ وعدم الإقصاء، إلا أن الواقع أكثر تعقيدًا امام السوريين، فهناك تحديات إعادة الإعمار، والعقوبات الاقتصادية، والترتيبات الأمنية مع القوى الإقليمية والدولية، فمازالت القوات الأمريكية شرق البلاد والتركية شمالها والإسرائيلية تحتل جنوبها، كل هذا يجعل من هذه الزيارات أكثر من مجرد استعراض سياسي، بل خطوة اطار معركة ضمان وحدة البلاد.

ورغم أن هذه الجولة ترسم ملامح سياسة داخلية جديدة، فإن نجاحها الحقيقي يعتمد على قدرتها على تحقيق اختراقات حقيقية في الملفات العالقة، سواء عبر تفاهمات مع القوى الكردية، أو تحييد النفوذ الأجنبي، أو إعادة دمج المجتمع السوري ضمن مشروع وطني متماسك.

أخيرا، تبدو الحاجة ملحّة لدور عربي أكثر فاعلية، لا يقتصر على البيانات الدبلوماسية، بل يمتد إلى دعم اقتصادي واضح يُترجم في مشاريع إعادة إعمار تُسهم في تخفيف الأعباء عن السوريين، وتقطع الطريق أمام محاولات قوى إقليمية لفرض أجنداتها على مستقبل سوريا.

محـــــمد العـــــلي