بعد عام كامل على فرار الرئيس السوري المخلوع بشار الأسد، تتزاحم المشاريع السياسية على الساحة السورية وسط مشهد معقّد من التحولات العسكرية والسياسية والاجتماعية. فالصراع لم يعد مقتصرًا على المواجهات المباشرة مع قوات النظام المدعومة من إيران وروسيا أو على الضربات الإسرائيلية، بل امتدّ ليشمل تداعيات اقتصادية واجتماعية عميقة، حيث تواجه سوريا الجديدة صعوبات تتعلق بتوحيد المؤسسات، وإعادة الإعمار، وضمان العدالة، واحتواء نزعات الانفصال.


معركة التحرير وفرار بشار الأسد

شهدت سوريا في نهاية عام 2024 منعطفًا تاريخيًا يفوق بأهميته تدخل روسيا العسكري المباشر في أيلول/سبتمبر 2015، عندما كان النظام على وشك السقوط أمام تحالف “جيش الفتح”،  الذي كاد يسقط بشار الأسد وينقل المعركة إلى مدينة القرداحة في قلب الساحل السوري، حيث تنتشر القواعد العسكرية الروسية.

أعلنت “إدارة العمليات العسكرية” والفصائل المشاركة في عملية “ردع العدوان” سيطرتها على عدد كبير من المدن والقرى في محافظات حلب وحماة وإدلب، في المقابل، أعلنت القيادة العامة للنظام السوري السابق عن تنفيذ “إعادة انتشار جزئية”، بينما واصل الطيران الروسي قصف مناطق محاذية لخطوط الاشتباك، ما أدى إلى سقوط ضحايا مدنيين.

وخلال أيام قليلة، تمكنت هيئة تحرير الشام والجيش الوطني السوري من السيطرة على المدن الرئيسية، بدءًا من إدلب وصولًا إلى حلب ثم دمشق. وجاء التقدم العسكري نتيجة خطة مدروسة لتطهير المدن من سلطة النظام، إلى جانب استفادة الفصائل من دعم إقليمي ودولي، ومن انشغال إيران وإسرائيل في صراع منفصل حال دون وصول الإمدادات للنظام.

في 1 ديسمبر ظهر بشار الأسد للمرة الأخيرة، بينما كانت سلطة النظام تتهاوى، ومع فجر الأحد 8 ديسمبر، اندلعت الاشتباكات في محيط العاصمة، معلنة انهيار الطوق الأمني حوله، وفي ليلة 7–8 ديسمبر، طلب الأسد إعداد خطاب رسمي، لكنه لم يُلقِه قط، وفي صباح اليوم التالي أقلعت طائرة من دمشق باتجاه قاعدة حميميم الروسية، ومنها نُقل سريعًا إلى موسكو، حيث تقيم عائلته منذ سنوات.

وبحلول 8 ديسمبر 2024، لم يعد الأسد موجودًا في سوريا، فيما بقي القصر الجمهوري فارغًا، معلنًا نهاية فصل مظلم من تاريخ البلاد، ومنذ ذلك الحين، يقيم الرجل المعروف بلقب “جزار دمشق” متخفيًا في العاصمة الروسية بضيافة فلاديمير بوتين.


العدالة الانتقالية

قالت مفوضية الأمم المتحدة السامية لحقوق الإنسان إن السلطات المؤقتة اتخذت خطوات “مشجعة” لمعالجة الانتهاكات السابقة، بالتزامن مع مرور عام على سقوط نظام الأسد، وبحسب المتحدث باسم المفوضية ثمين الخيطان، فقد شُكّلت هيئتان وطنيتان للعدالة الانتقالية وللمفقودين، ولجنتان للتحقيق في أحداث العنف في الساحل والسويداء، إضافة إلى إعداد مشروع قانون للعدالة الانتقالية وبدء محاكمات في قضايا العنف في المناطق الساحلية.

وأشار الخيطان إلى استمرار العمليات العسكرية الإسرائيلية، بما في ذلك توغل حديث قرب دمشق أسفر عن ضحايا مدنيين، إضافة إلى اعتقالات وتفتيش للمنازل، كما حذّر من دمج الجماعات المسلحة السابقة في قوات الأمن الجديدة “بطريقة متسرعة”، ومن دون تدقيق يستند إلى معايير حقوق الإنسان، مؤكدًا أن الإصلاح البنيوي لقطاع الأمن شرط أساسي لمنع تكرار الانتهاكات.

وأكد مفوض الأمم المتحدة السامي لحقوق الإنسان، فولكر تورك، أن معالجة جذور الانتهاكات وتحقيق المساءلة والعدالة والسلام تبقى شروطًا أساسية لنجاح المرحلة الانتقالية.

من جانبها، قالت اللجنة الدولية المستقلة للتحقيق في سوريا إن البلاد تمرّ بمرحلة انتقالية “هشة” بعد 14 عامًا من الحرب، مشيرة إلى ما حصل غرب البلاد وجنوبها ورحّبت اللجنة بالخطوات الوطنية نحو العدالة الانتقالية، مؤكدة أهمية التعاون مع منظمات المجتمع المدني وجمع الأدلة لضمان محاسبة المسؤولين عن الانتهاكات.


شبح التقسيم وتحديات توحيد البلاد

هنّأت الإدارة الذاتية الكردية عائلات “الشهداء” بذكرى سقوط نظام البعث، معتبرة أن رحيله خطوة مهمة نحو الحرية والعدالة. ورغم ذلك، منعت إقامة الاحتفالات الجماهيرية في مناطق سيطرتها بحجة المخاطر الأمنية ونشرت قواتها لمنع أي تحرك شعبي محتمل، خاصة في مدينة الرقة والحسكة، اللتان شهدتا احتفالات بسقوط النظام العام الماضي جرى مواجهتها بالرصاص ما أوقع عدد من القتلى وعشرات الجرحى إلى جانب احتجاز آخرين.

وأكدت الإدارة أن المرحلة الراهنة تتطلب حوارًا وطنيًا شاملًا، فيما حذّر القائد العام لقسد مظلوم عبدي من العودة إلى سياسات الإقصاء التي كانت سائدة في عهد النظام السابق.
وفي مقابلة مع صحيفة “جيروزاليم بوست”، قال عبدي إن “الاستقرار في دمشق يعتمد على استمرار الوجود الأميركي شرق سوريا”، مشيرًا إلى معرفته السابقة بأحمد الشرع، قائد هيئة تحرير الشام سابقًا، وإلى أن عام 2026 سيكون عامًا مفصليًا لتحديد نجاح تجربته أو فشلها.

ويرى عبدي أن العلويين والدروز والعرب العلمانيين يدعمون قسد، بينما تعتبر دمشق هذا التوافق تحالفًا لـ“الأقليات المتضررة” من سقوط النظام السابق.

وبالرغم من تشكيل سلطة مركزية قوية في دمشق مع تأييد شعبي واسع، فإن جهود إعادة توحيد سوريا تواجه تحديات كبيرة. فالقوات الكردية، وجماعات درزية في السويداء، إضافة إلى مجموعات مرتبطة ببقايا قوات النظام باللاذقية وطرطوس، ترفض بعض خطوات الحكومة الجديدة، وتبرز في مقدّمة التحديات مسألة استعادة السيطرة على مناطق الجزيرة، حيث الثروة الزراعية وحقول النفط والغاز التي تديرها الإدارة الذاتية بشكل مستقل مستغلة الدعم الدولي، ما يجعل أي عمل عسكري منفرد ضدها محفوفًا بالمخاطر.

وكان الاتفاق الموقع في 10 آذار/مارس 2024 بين الرئيس أحمد الشرع ومظلوم عبدي قد نص على دمج قسد في مؤسسات الدولة، لكن خلافات داخلية في حزب الاتحاد الديمقراطي PYD المرتبط بحزب العمال الكردستاني PKK عطّلت مسار التنفيذ، خاصة مع ربط بعض قيادات الحزب أي حلّ بالإفراج عن عبد الله أوجلان.

وفي السويداء، تتّهم مجموعات درزية الحكومة الجديدة بالتطرف و”اللون الواحد”، ما يجعل الخلاف أعمق من مجرد مطالب خدمية أو اقتصادية، بل يمتد إلى بُعد عقائدي.

أما إسرائيل، فتواصل دورها السلبي عبر دعم فصائل درزية في الجنوب وتقديم معلومات استخبارية لها، تحت ذريعة تقليص النفوذ الإيراني ومنع هجمات مشابهة لهجوم 7 أكتوبر انطلاقًا من الأراضي السورية.

وفي تصريح من الدوحة، قال الرئيس أحمد الشرع إن إسرائيل “تصدّر أزماتها للخارج هروبًا من مجازر غزة”، مؤكدًا أن سوريا أرسلت منذ ديسمبر 2024 رسائل إيجابية لتعزيز الاستقرار، لكن إسرائيل ردّت بأكثر من ألف غارة و400 توغّل خلال عام واحد. وأوضح أن دمشق تفاوض، بمشاركة أميركية، لدفع إسرائيل إلى الانسحاب من المناطق التي احتلتها بعد سقوط النظام.


إعادة الإعمار وعودة اللاجئين

قالت ليزا دوتن، مديرة التمويل والتواصل في مكتب تنسيق الشؤون الإنسانية (أوتشا)، إن أكثر من 16 مليون سوري ما زالوا بحاجة إلى مساعدات عاجلة، مشيرة إلى أن انعدام الأمن والصدمات المناخية يزيدان من حجم الاحتياجات.
وأضافت أن نحو 180 ألف شخص ما زالوا نازحين في السويداء والمناطق المجاورة، محذرة من مخلفات الحرب التي تسببت بوفاة أكثر من 570 شخصًا منذ ديسمبر 2024.

ورغم حجم المعاناة، أشارت دوتن إلى ارتفاع أعداد العائدين: 1.2 مليون من الخارج و1.9 مليون من النازحين داخليًا، ما يعكس “أملًا متجددًا”.

لكن ملايين السوريين لجأوا خلال سنوات الثورة السورية إلى تركيا وأوروبا والدول العربية لن يتمكنوا من العودة قبل تحسّن البنية التحتية وبدء إعادة الإعمار.
وفي هذا السياق، قال الرئيس الشرع إن “التعافي الاقتصادي شرط أساسي للاستقرار”، مؤكدًا أن حكومته تتفاوض لإلغاء قانون قيصر، و أن إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب “تدعم مسار رفع العقوبات عن سوريا إلى جانب أغلبية الدول.

في السياق، من واشنطن، أعلن رئيس الشؤون السياسية بالمجلس السوري–الأميركي محمد علاء غانم أن قانون قيصر سيُلغى بالكامل، مع إضافة بندين بصيغة “يتمنى الكونغرس” إنجاز اتفاق 10 آذار ومكافحة الكبتاغون.

هذا الانفتاح الاقتصادي فتح الباب أمام اهتمام استثماري متسارع، خاصة في قطاع الطاقة، فقد عقدت شركة شيفرون الأميركية اجتماعًا تمهيديًا مع الشركة السورية للبترول لبحث التعاون في استكشاف حقول الغاز والنفط قبالة الساحل السوري.
وفي حال رفع العقوبات، يتوقع أن تعود الشركات العالمية إلى البلاد، خصوصًا مع اعتبار قطاع الطاقة البحري إحدى أبرز الفرص الواعدة، في حين تستعد دمشق لإطلاق مشاريع استثمارية بقيمة 14 مليار دولار ضمن شراكات دولية وعربية جديدة.