
وسط واقعٍ متأزم يعيشه النازحون في الحسكة، جاءت صدمة إيقاف المساعدات الإنسانية في مخيمات النازحين لتضيف مزيداً من المعاناة إلى مشهد النزوح المزمن. القرار، الذي أعلنت عنه الإدارة الذاتية الكردية، يشمل وقف توزيع الخبز المجاني ورواتب العمال المؤقتين، مع الإبقاء على حدٍّ أدنى من الخدمات الأساسية، مما دفع آلاف العائلات إلى مواجهة مستقبلٍ مجهول في ظل تفاقم الأوضاع المعيشية.
في مخيماتٍ كانت بالكاد تقوى على تلبية احتياجات سكانها، تحول القرار إلى عامل انهيار اقتصادي واجتماعي، حيث وجد العمال أنفسهم بلا دخل، والنازحون بلا ضمانات لاستمرار الإغاثة. وبينما تنعكس تداعيات القرار على الأرض، تثار تساؤلات حول أسباب تأخر الإدارة عن تحمل النفقات رغم سيطرتها على مصادر النفط السوري، ودور التمويل الدولي المتعثر، خاصة في ظل التغيرات الجيوسياسية التي تعيد تشكيل ملامح الجزيرة السورية.
هذا التحقيق يسلط الضوء على أبعاد الأزمة، من شهادات المتضررين، إلى حسابات السياسة والتمويل، وصولاً إلى التداعيات الإنسانية المحتملة إذا استمر تعليق المساعدات في منطقة تعتمد عليها عشرات الآلاف من العائلات.
أكد نازحون أن الإدارة الذاتية الكردية أبلغت قاطني مخيمات الحسكة بإيقاف المساعدات الإنسانية، وعلى رأسها توزيع الخبز المجاني ورواتب العمال المؤقتين لدى الجمعيات، مع الإبقاء على مخصصات الماء وجزء من المحروقات فقط.
“كنت أعتمد على هذا الراتب لسد احتياجات أسرتي، لكن الآن لا أعلم كيف سأدبر أموري”، يقول أبو محمد السهم (اسم مستعار) أحد العمال المتضررين في حديثه مع موقع “دجلة”، مضيفاً: “استدنت من المحلات التجارية على أمل استلام راتبي، لكن بعد القرار، أصبحت غارقاً في الديون، وزملائي ينصحوني بنسيان الأمر لأن بعض المسؤولين يقولون بأنهم ليستطيعوا دفع الرواتب”.
وقال بإنهم يتنظرون تأكيد الأمر للخروج من المخيم مع عدد كبير من العائلات، إذا أكد المسؤولون وقف الإعانات للعائلات.
لم يكن هذا العامل وحده في معاناته، إذ شكل القرار صدمة كبيرة لدى العديد من الموظفين، بينما دخل بعض النازحين في مخيم ديريك/نيروز في نوبات بكاء بعد إلغاء السلل الغذائية وسماعهم لقرار بيع الخبز في المخيم بداية من صباح الأحد، خاصة أن المخيم استقبل مؤخراً عائلات نازحة من عفرين، وقبل ذلك من منطقة نهر زركان بين أبو راسين وتل تمر، ممن تحولت قراهم إلى ساحات قتال بين القوات الكردية والتركية.
تأثيرات القرار بالأرقام
جاء هذا التطور على خلفية قرار الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب بتعليق برامج المساعدات الخارجية لمدة 90 يوماً، ما أثر سلباً على عمل المنظمات الإنسانية التي تموّل حوالي 80% من المساعدات في مناطق سيطرة قوات سوريا الديمقراطية (قسد). ومن بين هذه المنظمات “بلومنت” و”ميرسي كور” و”كير” و”سيف ذا تشيلدرن”، إلى جانب وسائل إعلام ممولة من الإدارة الذاتية الكردية.
وكان الصحفيون العامون في الإذاعات والمواقع العاملة في مناطق سيطرة الإدارة الكردية، يتلقون رواتب تصل إلى 400 دولار أمريكي على الأقل لكنها تأثرت بقرار الرئيس الأمريكي وأوقفت عمل بعض الصحفيين والمراسلين، حسب أحد الصحفيين العاملين بالجزيرة السورية.
يقول ناجي حبو، رئيس المشارك دائرة شؤون المنظمات في الإدارة الذاتية، في تصريح نقله موقع (نورث برس): إن تعليق المساعدات الأميركية أثّر مباشرة على قطاعات الصحة والتعليم والطاقة والزراعة والمساعدات الغذائية والتأهيل النفسي، خاصة في المخيمات، حيث خفّضت المنظمات الموظفين بأكثر من 80%. وأوضح أن بعض المنظمات الأوروبية غير المشمولة بالقرار تقدم دعماً لا يتجاوز 25% من المساعدات الإنسانية.
وأشار إلى أن مخيمي الهول وروج يضمان نحو 50 ألف شخص، بينهم 23% أطفال دون الخامسة و42% بين 5-18 عاماً، تأثروا بانقطاع الخدمات. وأكد أن منظمات (بلومنت، ميرسي كول، كير، سيف ذا تشيلدرن) كانت الأكثر تضرراً.
وأضاف أن 20 ألف امرأة وطفل يعانون من سوء التغذية، و5 آلاف شخص بحاجة إلى رعاية طبية لأمراض مزمنة، إضافة إلى 1500 من ذوي الاحتياجات الخاصة يواجهون تهميشاً متزايداً.
رواتب الحرس تمويل أمريكي
أوضحت جيهان هانا مديرة مخيم الهول، وهي امرأة كردية في الأربعينات من عمرها، لبي بي سي نهاية الشهر الماضي، أن فريقها يعتمد بشكل كبير على المنظمات غير الحكومية لتوفير احتياجات سكان المخيم – وأن بعض المنظمات غير الحكومية تلقت ما يصل إلى 70 في المئة من تمويلها من الولايات المتحدة.
وقالت أن منظمة غير حكومية تنسق عودة العراقيين من المخيم “أوقفت عملياتها لأنها لم تتمكن من دفع أجور الحراس، وأرسلت المنظمة غير الحكومية موظفيها المدنيين إلى منازلهم، ونتيجة لذلك، تأخرت عودة أكثر من 500 عراقي”، وهي تقصد الدفعة المؤلفة من 90 عائلة غادرت يوم 30 كانون الثاني 2025 ، سبقتها دفعة ضمت 148 عائلة التي غادرت يوم 25 كانون الثاني 2025.
وهي 3 دفعات للأسر العراقية التي تخرج من مخيم الهول خلال هذا العام 2025، بعد أن غادرت 193 أسرة عراقية المخيم ضمن الدفعة الأولى بتاريخ 8 كانون الثاني الماضي، وهناك دفعة رابعة تستعد للخروج.
وفي يوم 23 كانون الثاني 2025، سمحت السلطات الكردية لجميع المواطنين السوريين المقيمين في مخيم الهول ( 16 ألف سوري من أصل 40 ألف) بالعودة طوعاً إلى ديارهم، وغادر بعضهم بالفعل، وكانت نحو 18 عائلة غادرت مخيم العريشة ومن المتوقف أن تغادر عائلات أخرى المخيم الذي يضم أكثر من 20 ألف نازح موزعين على أكثر من 1900 عائلة معظمهم من دير الزور مع بعض العائلات من حلب وإدلب.
لم تبد الإدارة الذاتية استعدادها لمتابعة تغطية تكاليف استمرار الخدمات في مخيمات النازحين على الأقل في مخيمات مثل “رأس العين والتوينة ونيروز” وهي مخيمات تستقبل نازحين تركوا منازلهم نتيجة المعارك بين القوات الكردية والتركية المستمرة في أرياف حلب والحسكة، في حين كانت خلال السنوات تمنع خروج النازحين السوريين من المحافظات الأخرى من مخيمات العريشة والهول رغم الوساطات العشائرية لأنها كانت تمنع دخولهم لمناطق سيطرتها دون وجود كفيل مع إعطاء كل شخص بطاقة وافد.
في ظل هذه الأوضاع المتدهورة وغياب اتفاق بين دمشق وقسد يوضح مستقبل الجزيرة السورية، يتساءل النازحون والعاملون في القطاع الإنساني عن مصيرهم في حال استمرار تعليق المساعدات، خاصة أن نهر الفرات وطريق حلب الدولي تحولا لمنطقة اشتباك تشتعل يوميا، فبينما تعيش آلاف الأسر على المساعدات الإغاثية، يزداد الخوف من أن يكون قرار تعليق التمويل بداية لانهيار الوضع الإنساني في الجزيرة.