في مشهد يتسم بالوقاحة والتناقض يجتمعون في العقبة” لتقرير مصير سوريا، بعد أن أظهرت الدول العربية والأمم المتحدة والمجتمع الدولي على مدى أكثر من ثلاثة عشر عامًا عجزًا مخزيًا عن مواجهة نظام بشار الأسد الذي ارتكب المجازر وشرّد الملايين من الشعب السوري. تحت ذريعة حماية المصالح الإقليمية والدولية، برّرت هذه الأطراف تقاعسها بحجج واهية، أبرزها الحماية الروسية للنظام السوري. ولكن السؤال الذي لا يزال يطرح نفسه: هل كانت الحماية الروسية عائقًا حقيقيًا أم مجرد غطاء لتخاذل دولي غير مبرر؟

العرب وجامعتهم

منذ اندلاع الثورة السورية في عام 2011، شنت آلة القمع الأسدية حربًا شعواء على السوريين، استخدمت فيها الأسلحة الكيماوية والبراميل المتفجرة وعمليات الحصار المميتة، ومع ذلك لم يتحرك العالم لإيقاف هذه الجرائم. الدول التي تدّعي دعم الديمقراطية وحقوق الإنسان وقفت موقف المتفرج، مما أعطى الأسد الضوء الأخضر لمواصلة القتل والتشريد. أما الدول العربية، فبدلاً من دعم الشعب السوري، تاهت بين خلافاتها وتناقضاتها، وحوّلت القضية السورية إلى ورقة ضغط سياسية في ملفاتها الإقليمية فيما عبمل بعضها على تشويه سمعة السوريين الأحرار بآلته الإعلامية وآخرون أرسلوا ميليشيات طائفية لقتلهم مستخلين الحدود المشتركة.

الدول العربية استخدمت قضية الثورة  السورية كوسيلة لتحقيق مصالحها الخاصة ولتخويف شعوبها وللنيل إعلاميا من كرامة السوريين.

وأخيرا، مجموعة الاتصال العربية، التي استقبلت الأسد في جامعة الدول العربية كممثل شرعي لسوريا خلال العامين الماضيين، أصبحت اليوم أداة لفرض رؤى سطحية على الشعب السوري. بحجة الخوف من النفوذ التركي والإخوان المسلمين، تتجاهل هذه الدول أن الإطاحة بالنظام السوري كانت كفيلة بالقضاء على المشروع الإيراني الذي كاد يطوق بلاد الخليج لولا التضحيات الجسيمة للسوريين.

الأمم المتحدة، وهم الحل السياسي

لعبت الأمم المتحدة دورًا باهتًا ومخيّبًا للآمال في ساهم في تأليب الدول ضد الثورة السورية، حيث اتسمت قراراتها بعدم الجدية وافتقارها للآليات الملزمة، وتقديم الأموال للنظام السوري والدول المجاورة باسم الشعب السوري الذي لم يحصل على شيء منها. حتى القرار 2254، الذي أُقر عام 2015 باعتباره خارطة طريق لحل سياسي شامل في سوريا، كان أبرز مثال على هذا العجز، والسوريون اليوم انتزعوا بلادهم من عائلة الأسد بالقتال والدماء الغزيرة. وهذا القرار يدعو إلى وقف إطلاق النار وإجراء انتخابات تحت إشراف دولي، لكنه من الناحية العملية، فشل في تحقيق أي من أهدافه واستمر النظام السوري وحلفاؤه بالهجوم على المدن السورية، وهنا، لا اقصد ادلب فقط أو المناطق التي كانت تحت سيطرة التنظيمات المصنفة لديها بل في جميع أنحاء سوريا لم يحترم هذا القرار، ودائما الحجة واحدة، الروس.

حاليا، من بين الإشكاليات الكبرى في هذا القرار هو محاولته إشراك فلول النظام السوري في العملية السياسية، مما يعد خيانة لدماء مئات الآلاف من الشهداء الذين قضوا تحت قصف هذا النظام وجرائمه، وأيضا دعم موقف الفصائل والأحزاب المسلحة التي تسيطر على أجزاء من الأراضي السورية بقوة السلاح وبدعم دول كبرى أو إقليمية وهذا يعن أن الأمم المتحدة مصرة على الاستمرار في دورها المتخاذل الذي يلون خيبات الشعب السوري بغطاء “الشرعية الدولي”.

 كيف يمكن لمنظمة دولية تزعم أنها تدافع عن حقوق الإنسان أن تعطي شرعية لنظام قمعي مسؤول عن تشريد الملايين؟ ثم تحاول أن تساعد في تقسيم سوريا، أن تلعب دورا في مستقبل سوريا قبل أن تعتذر أولا وتكافح فساد موظفيها الذين كان يرممون مباني في عهد الأسد بحجة اصلاح البنية التحتية. هذه الخطوة أثارت استياء واسعًا بين السوريين الذين يرون فيها محاولات لإعادة تدوير النظام بدلاً من محاسبته.

رغم إدعاء الأمم المتحدة بأنها تعمل لمصلحة الشعب السوري، فقد ربطت دخول المساعدات الإنسانية بموافقة النظام السوري، مما أعطى الأسد وسيلة ضغط إضافية للتحكم بحياة ملايين السوريين. بل إن المنظمة الدولية دعت الأوروبيين إلى بدء برامج “التعافي المبكر” بحجة وجود 16 مليون سوري بحاجة داخل البلاد، متناسية أن الأسد نفسه هو المسؤول الأول عن المجاعة والدمار الذي حل بسوريا. هذا التوجه يعكس خضوع الأمم المتحدة لإملاءات القوى الكبرى وتجاهلها للحقائق على الأرض.

ازدواجية المعايير الدولية

أظهرت الأزمة السورية مدى ازدواجية المعايير في السياسة الدولية. فعندما يتعلق الأمر بحماية إسرائيل أو احتواء النفوذ الإيراني، تتحرك القوى الكبرى سريعًا لإعادة رسم المشهد السياسي في المنطقة وتسمح للسوريين بالوصول إلى حقوقهم حتى لو قادتهم إليها “تحرير الشام” المصنفة على قوائم الإرهاب!! أما عندما يتعلق الأمر بمحاسبة النظام السوري على جرائمه أو تمكين السوريين من تقرير مصيرهم، تتحول هذه القوى إلى متفرجين غير مبالين على مدى عقد كامل من الزمن.

لقد أصبح واضحًا أن المجتمع الدولي لم يكن مهتمًا يومًا بتحقيق العدالة للشعب السوري بقدر اهتمامه بحماية مصالحه الجيوسياسية، ولعل التدخلات الروسية والإيرانية في سوريا كشفت بشكل جلي هذا الواقع، حيث سمحت القوى الغربية لهذه التدخلات بالاستمرار، ما دامت لا تهدد بشكل مباشر توازن القوى الذي يحمي إسرائيل أو يضمن استمرار تدفق النفط لكن غزة كشفت نفاق الجميع “محور المقاومة” الذي تقاعس عن نصرتها والمجتمع الدولي الذي ترك السوريين تحت رحمة الجزار بشار الأسد وجلاوزته.

إن تقاعس الأمم المتحدة والمجتمع الدولي والدول العربية عن مواجهة نظام الأسد يعكس انهيارًا أخلاقيًا وسياسيًا على المستويين الإقليمي والدولي، وليس للدعم الروسي علاقة بهذا الخذلان للسوريين، لقد أثبتت الثورة السورية أن العالم مستعد للتضحية بحقوق الشعوب في سبيل المصالح السياسية، وأن شعارات الديمقراطية وحقوق الإنسان ليست سوى كلمات جوفاء تُستخدم عند الحاجة لتبرير التدخل أو التقاعس.

الشعب السوري، الذي دفع ثمنًا باهظًا في سبيل حريته وكرامته، لن يقبل بمحاولات فرض حلول تخدم مصالح الدول الكبرى والإقليمية، فالطريق نحو العدالة وحقوق المكونات السورية  لن يمر عبر مؤتمرات واتفاقيات جوفاء، بل عبر المساواة أمام القانون وتمكين السوريين من تقرير مصيرهم بأنفسهم، دون إملاءات أو وصاية خارجية.

محمد العلي