في ربيع 2003، انطلقت قوافل من الشباب العرب والمسلمين إلى العراق، حالمين بصد الغزو الأمريكي، بينهم كان كثير من السوريين، مدفوعين بحس عقائدي عميق وإرث من السخط على نظامهم المحلي، بعضهم من موالد 1982 درسوا معنا في الإعدادية أم الثانوية أو حتى بالسنوات الأولى من الجامعة. غير أن كثيرًا منهم عادوا لا يحملون إلا الخيبة، والمرارة، والسخط فقد باعتهم فصائل عراقية، من بينها البيشمركة، للقوات الأمريكية مقابل 200 دولار فقط.
كانت الصدمة مزدوجة، كانت الخيانة من مجموعات من العراقيين، وكان التعامل الأميركي، برغم سطوته، أرحم من هذه الفصائل التي يفترض أنهم يقاتلون معها الغزاة، عند هذه النقطة، تبدل الحب القديم للعراق إلى سخط، لا على الشعب، بل على ولاءات الفصائل العراقية المتقلبة، بين واشنطن وطهران.
هذا الجرح لم يلتئم بعودة الشباب إلى مقاعدة الجامعات بل ازداد عمقًا بسبب الرقابة الأمنية عليهم إلى حين اندلاع الثورة السورية في 2011م، التي كانوا ينتظرونها بفارغ الصبر…وهذا طبعا مقصور على فئة محددة عايشتها بدمشق.
التيار الديني (سلفي- إخواني – غير منظم) الذي توجس بداية من استمرارية الثورة لكنه صبر أكثر من غيره في مواجهة النظام بعد ذلك، ثم أطلق صرخات “وينكم يا عرب؟” و”وينكم يا مسلمين؟”التي استقطبت عدد كبير من المقاتلين، لكنه وجد نفسه وجهًا لوجه مع واقع داخلي أكثر مرارة: جزءٌ كبير من المجتمع السوري اتخذ موقفًا رماديًا أو اصطفّ خلف النظام على أسس طائفية أو عرقية. هكذا، في ظل خذلان دولي بالخارج وتفكك مجتمعي بالداخل، انطلقت موجات من التشدد، وأخذ البعض يطرق “أبواب السماء”، لتفتح كما توهموا، فظهر تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) وأخواته، مستغلين انسداد الأفق وخيبة الأمل كحصان طروادة نحو الصعود والبروز على الساحة السورية، لكن الانكسار الهائل وتداعياته على المجتمع السوري خاصة في الشرق وحلب، كان له أثر عميق في النفوس.
وعلى هذا الأساس، وفي هذا السياق تبرز التخوفات من دمج المقاتلين الأجانب بالجيش السوري الجديد اليوم، رغم أن جيوش المنطقة العربية وحتى إسرائيل ساهم الأجانب والمهاجرين على أسس دينية بتأسيسها، وهم الذين كانوا قوام جيش الشرق الفرنسي بسوريا الانتدابية.
يعود الجدل حول “الأجانب” الذين بقوا في سوريا تحت راية “نصرة أهل الشام”، لا يتجاوز عددهم 3500 مقاتل، بعد قبول الأمريكان بوجودهم ضمن ترتيبات معينة بسبب إصرار الرئيس أحمد الشرع على ذلك، لأنه ممن تجرعوا خيبة الأمل في العراق، والتي تحدثنا عنها، هذا أولا.
والسبب الثاني، هم رأس حربة قواته في هذه المرحلة ومازالت إيران وحلفائها بالمنطقة يحفرون للحكم الجديد في كل زاوية، من الساحل إلى حمص وحماة وصولا إلى استهداف الجولان، لتقول: “مازال مبكرا الحديث عن هزيمة المحور الإيراني”.
والمفارقة أن كثيرًا من الأصوات التي كانت تُقرع السوريين ليل نهار بشأن هذا الملف – من منابر إعلامية ضخمة أو مراكز مراقبة مشهورة – صمتت فجأة، أو غيرت لهجتها، خصوصًا بعد أن أصبحت مسألة الحكم الجديد في دمشق واقعًا دوليًا أكثر منها خيارًا محليًا، تماما كما هو حال قسد التي تضم أكثر من 3 آلاف مقاتل أجنبي معظمهم من العمال الكردستاني كان لهم دور كبير في تنظيم هذه القوات تدركه القوات الأمريكية.
لهذا باتوا، يقولون إن ترامب -واشنطن – سيَفرض السلام مع إسرائيل على دمشق، وهذا، بحد ذاته، ليس مرفوضا إذا ما ارتبط باستعادة الأراضي السورية المحتلة كاملة، لكنه مرتبط بوجود حكومة شرعية ورئيس وبرلمان منتخبين، ومع ذلك فأن الحكومة السورية المؤقتة، توقل ان الأمر يتعلق باتفاق 1974 وما زال الإطار الممكن، لأن دمشق المنهكة لا تملك رفاهية الحرب، وهي بالكاد تنقذ بلدا جاثيًا على ركبتيه.
هذه الجيوش الإعلامية العربية تسلط أضوائها الكاشفة على سوريا الممزقة لتصل بها إلى “الديمقراطية” تاركة الدكتاتوريات والملكيات المطلقة خلفها، لتقول: إن الحكم الجديد لم يأتِ نتيجة نصر داخلي صرف، بل نتيجة قرار دولي بإنهاء عهد الأسد، بعد “معركة ردع العدوان” التي شكلت اختبارًا وجوديًا للحكام الجدد فنجحوا فيه. في المقابل، فشلت الفصائل الأخرى في توحيد صفوفها، فباتت تدور في فلك القوى الصاعدة إلى دمشق، والتي تفوقت تنظيميًا وعسكريًا بلا منازع.
وربما لا نختلف معهم كثيرا، لكن رغم محاولات طهران التخريب عبر تحريك جبهات الساحل والجولان، أو التلويح الإسرائيلي بورقة “الدروز” لإرباك الجنوب، إلا أن التحالف الثلاثي الجديد (عرب، ترك، أمريكيون) بدا أكثر انسجامًا مما توقع كثيرون. وها هي السلطة الجديدة تعبر أكثر من اختبار دون أن تسقط.
لكن، ومع ذلك، لا يكف البعض عن الترويج لفكرة الانهيار القادم، والحرب الأهلية الوشيكة، وعدم أهلية التيارات الدينية للحكم. يتجاهلون بذلك التصريحات الأمريكية المتكررة بأن واشنطن غيّرت مقاربتها، وأنها تريد أن يشعر المسلمون أنهم يحكمون أنفسهم، كي لا يولد “داعش 2” من رحم القمع أو التهميش والتجاهل لتطلعات الشعوب بالمنطقة التي ضاقت ذرعا بتسلط “الأقليات” وهذا الشعور في حال تنامى يهدد حتى مشروع إسرائيل نفسها بالمنطقة هذا عدا حلفاء العرب لواشنطن.
في النهاية، حسب وجهة نظري، لم يحقق الأمريكيون للثوار السوريين ما حلموا به، ولم يدفعوهم إلى النصر على نظام الأسد لتحقيق الحرية والكرامة، وكانوا قادرين على ذلك منذ سنوات، بل اختاروا دعم الفصيل الأقوى والأكثر انضباطًا لضبط المشهد، سواء أكان ذلك “هيئة تحرير الشام” التي قاتلت النظام وتحالف مع تركيا، أم “قسد” التي التزمت الحياد مع النظام وحاربت تركيا، وذلك لأن استمرار بشار الأسد بات مستحيلا ومع رفع حلفاءه الروس يدهم عنه بعد أسبوع من انطلاق المعركة وتحرير حلب، فظهرت نتيجة اختلاف ميزان القوى بين الفصائل الفتية وبين الجيش المهلهل الفاسد الذي باع ضباطه بياناتهم لقوات الشمال السوري بمساعدة مالية لا تتجاوز 30 دولارا.