في تطور دبلوماسي غير مسبوق، استضافت باريس هذا الأسبوع اجتماعاً جمع وزير الخارجية السوري أسعد الشيباني، ووزير الشؤون الاستراتيجية في حكومة الاحتلال الإسرائيلي رون ديرمر، بوساطة أميركية مباشرة. اللقاء، الذي جرى خلف أبواب مغلقة، ناقش ملفات حساسة تتعلق بالجنوب السوري، خصوصاً محافظة السويداء، تحت عنوان “خفض التصعيد وتعزيز الاستقرار”.
الاجتماع سبقه تحرك لافت: المبعوث الأميركي توماس باراك التقى في العاصمة الفرنسية الزعيم الروحي للطائفة الدرزية في إسرائيل موفق طريف، وبحث معه الوضع في السويداء، في تدخل سافر بالشأن السوري، قال بضرورة فتح ممرات إنسانية سماها “درزية – درزية”، وتثبيت وقف إطلاق النار، هذه السلسلة من اللقاءات تكشف أن الملف لم يعد شأناً سورياً داخلياً، بل صار ساحة لتقاطع مصالح أميركية-إسرائيلية على الأرض السورية، فتخيلوا وقاحة طرح “سحب القوات السورية” من 30 قرية بالسويداء مقابل تبرير انتشرا قوات الاحتلال بجبل الشيخ والقنيطرة بل والمطالبة بالضغط على دمشق عسكريا، وهنا لا ننسى أن اجتماع باريس لم يأتِ من فراغ، بل سبقه تنسيق إماراتي-أمريكي وآخر تركي- إسرائيلي في باكو، لكنها انتهت بغارات إسرائيلية مكثفة على استهدت السويداء ودرعا و قيادة الأركان في دمشق وحتى قرب القصر الرئاسي.
المفارقة، قبول دمشق التفاوض خارج السياق الأصلي مع أن إسرائيل لا تزال تعلن بوضوح أن مرتفعات الجولان، التي احتلتها عام 1967 وضمتها بدعم أمريكي عام 1981، “جزء من إسرائيل”، كما قال وزير خارجيتها جدعون ساعر في حزيران/يونيو الماضي، مؤكداً أن أي اتفاق سلام لن يغيّر هذا الواقع. دمشق ردّت بأن لا معنى لأي حديث عن التطبيع قبل استعادة الأرض. ومع ذلك، يأتي اجتماع باريس ليحوّل بوصلة النقاش من الجولان إلى السويداء، وهو ما يُنظر إليه سورياً كتراجع خطير.
فإذا ما جرى القبول بمناقشة وقف إطلاق النار أو ممر إسرائيلي للمساعدات أو “إدارة التوتر” في السويداء على طاولة واحدة مع إسرائيل، فهذا يعني عملياً نقل خط الاشتباك من تخوم الجولان إلى عمق الأراضي السورية، وهو تحول استراتيجي يهدد بتطبيع فكرة التدخل الإسرائيلي في الشأن الداخلي السوري، وتثبيت إسرائيل كوسيط – لا كقوة احتلال، بدلا من استثمار الرأي العام السوري الداعم للحكم الجديد لمواجهة هذا التهديد.
إسرائيل تحاول استغلال هشاشة المرحلة الانتقالية في سوريا لشرعنة وجودها العسكري في الجولان والجنوب والحديث عن “ممرات إنسانية” أو “حماية السويداء” مجرد ستار لتفتيت الموقف السوري وربط الداخل بمفاوضات أمنية مع تل أبيب.
أمّا دمشق، التي لطالما تمسكت بأن أي مفاوضات لا بد أن تنطلق من مبدأ استعادة الجولان كاملاً، تجد نفسها اليوم أمام اختبار عسير: إما أن تثبّت معادلة الصراع كما رسمتها اتفاقية فك الاشتباك عام 1974، أو أن تسمح بتحويل السويداء إلى ساحة تفاوضية جديدة، بما يفتح الباب أمام سيناريو تقسيم ناعم وخطير سيعمم بعد ذلك على الشرق والغرب السوري، يؤكده كلام قسد أن إسرائيل فاعلة بالقضايا الداخلية السورية.
منذ عام 1948، بقيت سوريا وإسرائيل في حالة حرب قائمة من الناحية القانونية والسياسية. ورغم اتفاقية فك الاشتباك عام 1974 التي أعقبت حرب تشرين 1973، ظل الوضع هشّاً، و احتلت إسرائيل ثلثي الجولان في حرب حزيران/يونيو 1967، وضمت تلك الأراضي في 1981 بقرار لم يعترف به العالم، باستثناء الولايات المتحدة عام 2019 من خلال إدارة دونالد ترامب.
إن تحويل السويداء إلى محل تفاوض مع حكومة الشرع على غرار الجولان زمن نظام الأسد، أو فتح ممرات إنسانية بضغط أميركي-إسرائيلي، يهدد بتقويض وحدة سوريا، فالمعادلة واضحة: لا مفاوضات مع إسرائيل إلا على أساس استعادة الجولان كاملاً، ولا يمكن لأي طرف أن يشرعن بحث شؤون سورية داخلية مع مسؤولين إسرائيليين، سواء كانوا وزراء أو مجرد مبعوثين مقربين من نتنياهو.
الخيار أمام دمشق صريح لا لبس فيه: إما تثبيت قواعد الصراع كما هي، ضمن اتفاق 1974 وحدوده، أو الانزلاق إلى مسار ملتبس يمنح إسرائيل حق التدخل في مستقبل محافظة سورية، وهو ما سيكون بمثابة اختراق أخطر من الحرب نفسها التي يجب أن تخشاها إسرائيل أكثر من سوريا التي تحاول تجاوز مرحلة التشظي نتيجة حرب استمرت لعقد ونصف العقد.
نهاية القول، العودة إلى اتفاق 1974 يجب أن تكون من مدخل إعادة التأكيد على أنّ الجولان أرض سورية محتلة، لا من مدخل تكريس “منطقة عازلة موسعة” منزوعة السلاح تمتد حتى السويداء.