على ضفاف نهر الخابور في قلب الجزيرة السورية، كانت الجدات على مدى قرون طويلة يصنعن العكة و والشكوة (الشجوة بالجيم المعجمة) من جلود الحملان والماعز لاستخدامها لأغراض عديدة مثل استخراج الزبدة من اللبن المخثر وتخزين السمن العربي فتجدها مع طلوع الشمس معلقة على الركابة (ثلاثة أوتاد) في بيوت الشعر أو في أعمدة سقف المطبخ في البيت الطينية.

تجربتي الشخصية مع العكة والشكوة ترتبط بذكريات طفولتي، حين كنت أستمتع بشرب وأكل المنتجات المخزنة فيها، وتظل صورة جدتي كل صباح وهي تقوم بخض الشكوة عالقة في ذهني، كان لهذا العمل إيقاع صوتي خاص وفريد، كأنه إعلان ببداية اليوم، وكان الجميع يلتف حول جدتي، يتجاذبون أطراف الحديث عن قصص الماضي ويخططون لما سيفعلونه في هذا اليوم، والمؤكد انتظار الإفطار على الزبدة والخبز الساخن.



والعكة، بضم العين وفتح الكاف، والشجوة، بكسر الشين وتخفيف الجيم، هما أكياس أو قرب مصنوعة من الجلد، غالبًا من جلد الحملان الصغار أو الماعز الصغير، التي تذبح كأضاحي أو في الولائم العامة والمناسبات، فكانت الجدات يحتفظن بجلود هذه الماشية وعلملن على تنظيفها ودبغها لعدة أيام مع التمليح والتشميس. بعد مراحل عديدة من تحضير الجلد وخياطته واقفال الثقوب بطريقة خاصة، تصبح العكة والشكوة، جاهزة للأستخدام وهي منتجات عضوية تمامًا، بدءًا من الجلد إلى الملح الطبيعي والدباغة بقشور الرمان، وانتهاءً بدبس التمر (عصير التمر المركز) الذي يظفي طعما خاصا على مذاق السمن الحيواني الذي يخزن في العكة.

تُستخدم العكة لتخزين السمن العربي أو الشحم المذاب أو التمر في بعض المناطق لشهور، وقد تكون لسنين. تعد هذه الطريقة في التخزين من أسلم وأنظف الطرق المستخدمة منذ القدم لتخزين هذه المواد قبل ظهور الثلاجات ووسائل التبريد الحديثة، فتحفظها من التعفن أو الفساد لاستخدامها في أوقات الشتاء وقلة الطعام



أما الشكوة، فهي تشبه العكة أو المزبد لكنها تكون أكبر حجمًا وتستخدم لغرض آخر غير التخزين لمدة طويلة، وهي على شكل قربة الماء التي كانت تستخدم لنقل المياه من النهر إلى البيوت ويمكن استخدامها كقربة للماء أو ما يسما بـ “الروايا”، وهي التي قصدها الشاعر البدوي الشهير عبد الله الفاضل حين قال: “خلص مي الروايا وظل مي جود”.



و تُستخدم الشكوة بشكل أساسي في خض اللبن المخثر مع الماء لاستخراج الزبدة وصنع اللبن المخفوق المنزوع الدسم وهو بهذا يختلف عن (الشنينة أو الجريعة) التي تنتج عن خفق اللبن المخثر كامل الدسم مع الماء البارد وقليل من الملح، وفي الحقيقة يطلق أهل الخابور على الحليب المخثر اسم “الخاثر”، أما اسم اللبن فيطلقونه على ما يبقى في الشكوة من لبن منزوع الدسم والمخفوق مع الماء بعد خض الخاثر واستخراج الزبدة، والتي بدورها تؤكل مباشرة على وجبة الفطور أو يجري إذابتها لتصبح سمنًا عربيًا يُخزن بالعكة. ولأن الشكوة من الجلد، فهي تظل ندية وباردة في فصل الصيف بفضل المسام على الجلد التي تخرج الماء منها، ليقوم بتبريد نفسه عند تعرضه للهواء، فيحفظ ما بداخله.



ولكن، مع وصول الكهرباء إلى قرى نهر الخابور في مطلع التسعينيات من القرن الماضي، وبحث البشر المستمر عن طرق للراحة، تم استبدال الشكوة بالخضاضة الكهربائية وفرازة السمن، واستبدلت العكة بالبرادات الكهربائية والمجمدات. تحولت العكة والشكوة إلى تراث وقصة من الماضي، تُروى للأجيال الجديدة كجزء من تراث الخابور الغني.

في خضم هذا التغير السريع، يظل الحفاظ على تراثنا جزءًا أساسيًا من هويتنا.

وتُعد العكة والشكوة رمزًا للابتكار البسيط والفعالية في تلبية الاحتياجات الأساسية بطرق طبيعية ومستدامة.، يجب أن نسعى دائمًا للحفاظ على هذا التراث وتعليمه لأجيالنا القادمة، ليعرفوا كيف عاش أجدادهم وكيف تمكنوا من مواجهة تحديات الحياة ببساطة وذكاء.


عبد العزيز التركي