عندما كنا أطفالاً، كان المحظوظ من يسمح له بحضور عمليات إعداد الكليجة أو المشاركة فيها. كانت هذه اللحظات مليئة بالسعادة والفرح، حيث كانت أمي تكلفني بمهام محددة كإحضار القوالب من دكان القرية. هذا الدور البسيط كان يجعلني أشعر بأهمية كبيرة، حيث أصبحت المشرف الأول على تشكيل العجين، بينما تنشغل هي بصف الأقراص في الصينية لبدء عملية انضاجها.
في الثمانينيات، كانت عملية إنضاج الكليجة تتم على جدار التنور الملتهب نهارا، مما كان يضفي على الكليجة نكهة فريدة ولذيذة. ومع مرور الزمن وتطور التقنيات في التسعينيات، تغير الحال وبدأت أمي تستخدم أفران الغاز والكهرباء وتستمر وجبات الكليجة أو وضع الدفعات داخل الفرن حتى منتصف الليل.
ورغم التغيير في طرق الإعداد، بقيت تلك الذكريات عالقة في ذهني، محملة بروائح الكليجة الزكية وأصوات الضحكات والحديث العائلي.
لا يشعر الناس بقرب موعد العيد أو طعمه دون صناعة “الكليجة” في بيوتهم، حتى تفوح رائحتها في كل ركن من أركانه، إيذانًا بقدوم اليوم السعيد. رائحة الكليجة تتسلل إلى منازل الجيران وتلف الأحياء بأكملها، تملأ أنوف المارة في الدروب، وتذكر من نسي التحضير لها.
يجب أن تُعد الكليجة ليلة العيد أو قبلها بفترة قصيرة حتى تكون جاهزة للتقديم للضيوف وأهل البيت في الصباح مع اللبن المخثر (الخاثر) على وجبة الإفطار، أو لوحدها مع الشاي في ساعات الضحى والعصر طوال أيام العيد.
تلك الرائحة الزكية التي تصدر من الأفران المنزلية، تنشر في الجو عبقًا لا يمكن مقاومته، فتصبح حديث الناس وتضفي على الأحياء والقرى جوًا من البهجة والترقب يوازي متعة أبناء المدن الكبيرة حين يصحبون الصحون الكبيرة إلى الأفران الحجرية.
تبدأ الرائحة الفريدة للكليجة في الانتشار بمجرد أن توضع الأقراص في الأفران. تلك الرائحة التي تحمل ذكريات الطفولة، وتعيد إلى الأذهان أعياد الماضي، تصبح علامة مميزة على قدوم العيد مثلها كمثل أهزوجة “جانا العيد ونعيد ونذبح بقرة السيد” في كل بيت، وتبعث الدفء في كل شارع تماما كما تفعل التكبيرات المنطلقة من المآذن، يتوقف الناس ليتنفسوا عميقًا، يستمتعون بذلك العبق الذي يملأ الأجواء بالدفء والفرح.
فإعداد الكليجة لم يكن مجرد عمل منزلي، بل كان احتفالاً بحد ذاته، يجمع أفراد العائلة ويعزز روابطهم.
تلك الأوقات الجميلة شكلت جزءًا من هوية العيد في قلوبنا، وما زالت تداعب مخيلتنا كلما اقترب موعد العيد، مذكّرةً إيانا بعبق الماضي ودفء العائلة.