رغم غزو الكتل الاسمنتية لقرى محافظات الجزيرة السورية، ما زال الكثير منهم يستخدمون البيوت الطينية للسكن أو كمستودعات للأعلاف وحظائر الحيوانات، لذا شرعوا بترميم الأبنية الطينية استعدادا لمواجهة موسم المطر مع اقتراب فصل الشتاء باستخدام طين معجون بالتبن، وهو يشكل المادة الأساسية بتجديد غرف اللبن رغم ظهور طرق وأساليب جديدة لمنع تسرب الماء إلى داخلها.

وتتميز منازل الطين، بأنها مكونة من مواد عازلة للحرارة في الصيف والبرودة في الشتاء، فالسكان يفضلونها على الأبنية الاسمنتية لهذا السبب رغم شدة بساطتها واعتمادها على ما تقدمه البيئة المحلية التي يعيش فيها السكان من مواد، فطينها لّلبِن (مفردها لَبِنَة) وللكساء مزيج من التراب والماء وتبن القمح والشعير، وأسقفها من أعمدة خشبية مصنوعة من جذوع الأشجار، وكميات من القش الذي تخلفه عمليات الحصاد.

الحارات الطينية

بناء منازل الّلبِن

تتكون غرف منزل الطين من جدران مبنية بمئات اللبنات (بشكل طولاني) وربما آلاف  (بشكل عرضي) اللبنات الطينية مسقوفة بأعمدة الخشب تعلوها أعواد “الزل” (القصب) والبردي سواء منسوجة على شكل “زروب” أو حزم من الأعواد المتفرقة ترصف فوق الأعمدة بشكل متعامد معها لتحمل ما يوضع فوقها من قش القمح والشعير (وأحيانا بقايا محاصيل أخرى وأشواك) ببعد ضغطها وتوزيعها بشكل متوازن تبدأ عملية تثبيت السقف بالوحل بطريقة تحتاج لمعرفة لجعله يميل عكس اتجاه الباب، فغالبا ما تثبت المزاريب المصنوعة من التنك من الجهة الخلفية.

وكان سكان الجزيرة يصنعون اللبنة باستخدام ملبن خشبي عرضه من 33 – 35 وطول بين 45 – 50 تقريبا، ولعدم وجود موارد ثابتة للماء سوى الأنهار، فيعملون على استغلال مياه الأمطار المتجمعة في فصل الربيع بصناعة اللبن بالمناطق البعيدة عن الأنهار والأودية لوجود الغدران المشكلة من ماء المطر المتجمع، حيث ينقلون الماء –سابقا- على الحميرأو العربات سواء من الغدارن أو الأنهار إذا لم يكن صاحب المنزل قد حفر بئرا سطحية، ويطلبون مساعدة الكثير من الأقرباء وهم دائما على الاستعداد للمساعدة في في صناعة اللبن و “اللياسات” (ترميم المنازل).

كما أن أجور البناء لم تكن غالية كما هي الآن، فالمعمرجي أو معلم البناء يحصل على 20 ليرة لبناء 1000 لبنة مقابل أكثر من 30 ألف سواء على بشكل طولاني يستهل عدد أقل من اللبنات بحدود أو عرضي وهو الأقوى ويستهلك نحو 3 آلاف لبنة للغرفة الكبيرة.

كما اختلفت المواد المستخدمة بالسقف (السبط) وترميمه، فكان يسبط بحصائر الزل والبردي وألواح الخشب قبل وضع القش، حاليا أصبح العاملون فيها يستخدمون أسلاك أو حبال المستخدمة لنشر الغسيل لصناعة شبكة فوق الأعمدة ثم تغطيتها بحصائر نايلون ملونة (صفراء بيضاء) ثم يغطونها بقطع كبيرة من الكرتون عوضا عن القش، لكنها لا تعزل الحرارة  والبرودة مثل القش، لأنها أقل سماكة، فحتى أصوات حبات المطر شتاء يمكن سماعها داخل الغرفة.

و كانت اللبنة تكلف 2-3 ليرة قبل عقدين من الزمن وتجري عمليات الترميم عبر المساعدة المجانية “الفزعة”، حاليا يطلب العمال مبلغ 35 ليرة سورية لصناعة لبنة واحدة (قبل انهيار سعر صرف الليرة) وأجر يومي 3000 ليرة لإجراء “اللياسة” للجدران والسقف وأحيانا يتفق مع صاحب الغرفة أو المنزل على 30 -40 ألف ليرة من أجل ترميمها بشكل كامل.

“الجبلة” و”اللياس”

رغم أن عملية ترميم المنازل الطينية متشابهة هناك بعض الخصوصية فيسميها أهل قرى الحسكة “السياعات” و”اللياسات” وقد تلفظ (اللياصات)، ويسميها سكان مناط جنوب القامشلي “تلتيمات”، وأداة السياعة أو “اللياسة”تسمى “مسياعة” بالقامشلي، فيما تسمى بالمناطق الحدودية مع تركيا “السياع” أو “اللياس” باستخدام “الكفكة”، في حين تسمى العملية بـ “الطلس” وأداتها يقال لها “المالج” عند أهل الرقة.

في العموم، يجمع التراب من الأراضي قليلة الحجارة في الجوار، وإلّا فيجب نقله بالعربات ومقطورات الجرارات الزراعية (تريلات) من مناطق تكون فيه التربة حمراء ومناسبة لصناعة طين الترميم، وأحيانا يعمد بعض الأهالي إلى فلاحة مساحة محدودة من أرض قريبة من الدار المراد ترميمها، ليسهل نقل الطين لإصلاح الجدران  والسطح أو ما يسمى محليا بـ “بظهر الدار”.

زيادة عدد الآبار الارتوازية والمنزلية السطحية جعل مسألة تأمين المياه سهلة لنقع التراب في مكانه قبل إضافة كميات كبيرة من التبن إليه قبل تقليبه باستخدام المجارف (كاروك) مرات عدة وعند وصوله إلى درجة معينة من اللزوجة والتماسك يصار إلى خلطه بدقة بالأرجل فيساعد الأطفال والدهم في الأمر أحيانا –حبا بالتجربة-  ليتحول التراب مع “التبن” إلى عجينة صالحة لإصلاح ما تساقط من طلاء الطين السابق والمعروف في الحسكة ودير الزور باسم “السياع” أو “لياس” (اللياسة) وفي الرقة بـ “الطلس”، حيث يفضل الأهالي الطلي أو الطلس بالأيادي العارية سابقا، لكن حاليا يستخدمون أدوات الطيانة مثل “المالج”  والسطول والحبل و الشنكل.

و لم يعد هناك “فزعات” (مساعدات جماعية) وحلت محلها ورشات مدفوعة الأجر تنقس إلى قسمين الأول يجهز “الجبلة” ويملأ السطول والثاني ينتشلها بالحبل والشنكل إلى ظهر الدار لتغطيتها بطبقة جديدة من الوحل فوق القديمة سواء كانت متشققة أولا.

الطاقة العالية والقبالات والدكة

جدران البيوت الطينية عريضة خاصة عن استخدام اللبنات بشطل عرضي لبنائها، الأمر الذي يسمح لأصحابها الإستفادة منها برفع بعض الأشياء من أرضية الغرف مثل الفرش و الأغطية بغرف العائلة وأيضا أواني مياه الشرب وسجادات الصلاة وأشياء أخرى يحتاجون استخدامها بكثرة بغرف الجلوس، فتوضع في الشبابيك المنخفضة، لكن الأشياء الأكثر اهمية وتحتاج لرفع بحيث تكون بأمان من أيادي الأطفال العابثين فتوضع في “الطاقة العالية” ، وهي كوة صغيرة مسدودة من الخارج يمكن رفع مصابيح الماز فيها سابقا.

كما يحرص السكان على بناء “دكة” مرتفعة من 25 – 50 سم أمام الباب ملتصقة بالجدار الجنوبي للغرفة الطينية غالبا، ترفع الباب عن الأرض وتستخدم للجلوس أمام المنزل وحماية أسفل الحائط من مياه السيول.

الأسقف وأشكالها

تختلف أشكال الأسقف من منطقة لأخرى مع ثبات المواد المستخدمة في إنشائها، فمنها ما يكون على شكل تبة” (تلة) أو مستوي أو هرمي على شكل مثلث.

و يسمي الأهالي في تل حميس وما حولها الجدار بـ “حائط الدام” وسقف الدار يكون على شكل تلة صغيرة ويسمى بـ “ظهر الدام” كقبعة الفطر مرتفعة في الوسط لمنع تجمع ماء المطر فوقها وتنتهي أطراف السطح بـ “رفرف توتياء” أي رفوف تثبت أعلى الحائط لتعمل عمل المزاريب  في ابعاد الماء المنساب عن الجدران.

 ويتصدى لعملية التتبيب، أي تحويلها لتبة (تلة باللغة التركية)، من ينفذ عملية اللياسة الأولى للسقف  فوق  القش (القمو) عبر التحكم بسماكة القش فوق الأعمدة والقصب ، فيكون أكثر سماكة في الوسط  ثم تنخفض تدريجيا من جميع الأطراف عبر تقليل سماكة القش، ويرى السكان أنها العملية الأنجع لوقف تسرب المياه وتشكل “النواقيط” أو “الخوارير” داخل المنزل خلال الشتاء.

بالمقابل، يسميه الأهالي في باقي مناطق الحسكة “ظهر الدار” ويكون مسطحا ومزودا بمزاريب 2- 4 من التنك للغرفة الواحدة من جهة ميلان سطح الغرفة الطينية، وغالبا من الشمال لأن الأبواب تكون من الجنوب باتجاه الشمس والقبلة.

أمّا أهالي منطقة البليخ شمال الرقة، يبنون أسقفا اسمها “درباسية” لأبنية يطلقون عليها اسم “قاووش” لتخزين الأعلاف أو كحظائر للحيوانات، فيكون السقف مستند على جسر كبير (عمود ضخم) يرتكز على هرمين صغيرين يتشكلان من استمرار رفع بناء ظلعي العرض بشكل هرمي مع توقف بناء ظلعي الطول عند ارتفاع 2 م تقريبا، فيثبت العمود في الوسط بأعلى نقطة، لتصبح مشابهة للأبنية الحديثة (هنكار)، وهذه الأسقف لا تحتاج لمزاريب لأن كل طرف ينحدر بشدة نحو الأرض بميل نحو 45 درجة، وحوافه خارج الجدران.

أخيرا، لجأ أغلب سكان البيوت الطينية إلى استخدام طبقة من الشادر أو النايلون فوق قش السقف واحيانا فوق “السياع الأول الذي يغطي القش ثم يغطى بطبقة جديدة من الطين لتحافظ عليه من أشعة الشمس، أو يثبت عبر أكياس من التراب لتقيله لمنع الهواء من رفعه عن السطح فقط، وذلك لمنع تسرب الماء إلى الداخل عبر بعض الشقوق الحاصلة بطبقة الطين (السياع) في أعلى المنزل. 

دجلة نت

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *