شهدت سوريا في الأيام الأخيرة تصعيدًا عسكريًا خطيرًا، حيث استهدف انفجار حاجز الشط قرب أعزاز، ما أسفر عن مقتل 9 أشخاص وإصابة العشرات يوم الأربعاء 7 آب. تبع ذلك سقوط 11 مدنيًا، بينهم أطفال، في مجزرة الدحلة وجديد بكارة في دير الزور يوم الجمعة في التاسع من الشهر الجاري، بالتزامن مع تصعيد قوات النظام في إدلب وحلب وحماة.
هذه التطورات تعني أن فصلًا جديدًا من الحرب الدامية بدأ، يدخل مرحلة أكثر تعقيدًا وصعوبة وقسوة على السوريين منذ بداية الحديث عن إعادة العلاقات بين أنقرة ودمشق. هذه المستجدات تراها القوات الكردية مؤامرة تحاك ضدها وضد إدارتها في شرق الفرات، مما دفعها لتكثيف هجماتها على نقاط عسكرية للجيش الوطني بريف حلب والرقة وشمال الحسكة، ثم فرضت حصارًا على المربعات الأمنية والعسكرية لقوات النظام في الحسكة بعد هجمات “جيش العشائر” العربية شرق دير الزور.
وكأن الوضع السوري يحتاج إلى مزيد من الدماء لزيادة حجم العقد العصية على الحل، وعلى رأسها القتل بالجملة، حيث تنتحر طائرات النظام السوري الإيرانية في صدور الأبرياء تستهدف سيارات المدنيين في إدلب ومنازلهم، بينما تتحين مفخخات القوات الكردية الفرصة للوصول إلى أي بلدة أو مدينة في الشمال السوري لإقلاق الأمن في المناطق الخاضعة لسيطرة فصائل الجيش الوطني تحت النفوذ والحماية التركية، وهو آخر ما ينقص هذه المناطق.
هرب مئات الآلاف من السوريين من أمام فوهات مدافع النظام السوري وحمم الطائرات الروسية من تدمير الصواريخ الإيرانية لمنازلهم، متوجهين إلى شمال سوريا حيث أصبحت مخيمات النازحين السمة الأولى للمنطقة. هؤلاء المهجرون لا يملكون شيئًا من أمرهم، حتى الانتفاضة التي أعقبت إعلانات القيادات التركية المتكررة عن توجيه الدعوة لبشار الأسد لإعادة العلاقات الطبيعية، كتم صوتها وظل اعتصام الكرامة بعيدًا عن بقعة الضوء الإعلامي رغم مطالبته بإزاحة الائتلاف الوطني والهيئات التابعة له عن المشهد واستبدالها بهيئات جديدة تمثل السوريين ولا تستمد شرعيتها من الدول الداعمة أو الصديقة.
حتى جنود الفصائل السورية وعناصر الشرطة والموظفون الذين ينفذون ما تطلبه القيادات المرتبطة ومن خلفها، هم أول الضحايا لأي تحرك أو مواجهة أو استهداف غادر. هذا عدا عن ترك هذه الفصائل لوظيفتها الأساسية وتوجيه فوهات بنادقها يمينًا أو يسارًا وأحيانًا إلى الخلف، ليواجه السوريون ويلات الحرب حتى في زمن المهادنة. فلا توجد فرص عمل كافية، والتعليم فاسد، والبنية التحتية في أسوأ حال، والسكن في خيمة كتبت على أروقتها عبارة “هذا هو شكل المستقبل”.
قدمت انتفاضة الأول من تموز الماضي على أنها احتجاج على الممارسات العنصرية ضد اللاجئين في تركيا، وردة فعل لا أكثر. لكن في حقيقتها، كانت تعبيرًا عن رفض تحكم المسؤولين الأتراك والقادة الموالين لهم بالشمال السوري ورفض الحديث عن الاتفاق مع بشار الأسد لفتح معابر نحو الشمال، حيث يعيش ملايين من السوريين الذين ذاقوا أهوال القصف ومرارة التشرد.
هل المطلوب من السوريين طي 13 عامًا من القتل والتهجير والظلم والاغتصاب؟ فعدم وضعهم في الحسبان في كل جولة تفاوض واختصارهم بهيئة تعيش معزولة عن الواقع أو بقائد يغرد بالتركية على موقع X، هو استهانة بحياتهم وإنسانيتهم من خلال حبسهم في سجن كبير يسمى “مناطق آمنة”.
هذا بالإضافة إلى استخدامهم كورقة ضغط في المفاوضات مع النظام تارة وفي الانتخابات التركية تارة أخرى، وتحويلهم إلى جنود يحاربون من تريد تركيا محاربته داخل الحدود أو خارجها باستثناء قوات النظام السوري وحلفائه الضامنين لاتفاقات خفض التصعيد في الشمال السوري.
هنا لا أتحدث بلسان من يعيش بعيدًا ويراقب، على أساس “انتقاد أهل الدثور لمن يقف على الثغور”، كما يقال، بل بلسان حال المنتفضين في الشمال السوري، وهذا ما عبر عنه منظمو اعتصام الكرامة حين اعترضوا على وجود المنسقين الأتراك وعلى رفع العلم التركي في كل مكان مع المطالبة بإسقاط الائتلاف والحكومة وكل ما له صلة بهما لتشكيل هيئة جديدة تعبر عن صوت الشارع السوري المنتفض رغم محاولات كبته.
ولن يكون مصير هذا الحراك أفضل حالًا من مصير “انتفاضة الزور” وهدفها الحقيقي هو رفع يد الكوادر الكردية الأجنبية عن إدارة المنطقة وثرواتها.
حتى تسليط الإدارة الذاتية الكردية الضوء الإعلامي – على غير العادة- على بقع الدم في دير الزور يأتي استثناء لأنه يصب في مصلحتها وبرواية تدين دمشق، التي بدورها حاولت استغلال جريمة “الدحلة” على غرار ما فعلت في حادثة “مجدل شمس” بالجولان، حيث قتلت صواريخ “محور المقاومة” 12 طفلًا سوريًا ولم تمش دمشق بالجنازة فقط بل أخذت العزاء بهم كما يقال.
وهكذا ندرك أن الدماء السورية تصبح مهمة فقط عندما تخدم أجندات المحور الأمريكي أو المحور الروسي لدى هذه القوى المتصارعة على الأراضي السورية على أساس تبعيتها لا على أساس حرمة الدم السوري.