نقص التمويل للمشاريع الإنسانية لسوريا أصبح حقيقة واضحة للغاية، وما كان القطاع الإنساني يتعامل معه كخطر محتمل أصبح تهديدا وجوديا لقطاع العمل الإنساني في سوريا عموما و شمال غرب على وجه الخصوص.

دخلت الأزمة السورية عامها الحادي عشر في آذار 2022 وسط تراجع مأساوي للوضع المعيشي و المالي للسوريين، و هذا ما انعكس سلباً على أرقام الاحتياجات الإنسانية لعام 2022، حيث وصل عدد الناس المحتاجين لمساعدة إنسانية 14.6 مليون شخص بينهم 9.6 مليون باحتياج شديد، و 4.9 مليون بحاجة قصوى بحسب تقرير الاحتياجات الإنسانية لسوريا 2022 (OCHA, 2022).

الشكل (1): تطور أرقام الاشخاص المحتاجين عبر السنوات (OCHA, 2022)

نستطيع ملاحظة تزايد عدد المستفيدين مع السنوات مع بلوغ أرقام المحتاجين لأقصى حد في سنة 2022 مع 14.6 مليون شخص، و هو أعلى ب 1.2 مليون من رقم سنة 2012.

غير أنّ أرقام الأشخاص ذوي الإحتياج لم تنعكس على حجم التمويل المخطط له و بالتالي على حجم التمويل الذي تم تأمينه، و هذا ما يمكن ملاحظته من خلال النظر إلى تطور تقييم الاحتياجات عبر خطط الاستجابة الإنسانية المتعاقبة و من ثم ما تم تأمينه لهذا الاحتياج خلال السنوات.

الشكل (2): مقارنة بين متطلبات التمويل الكاملة حسب خطة الاستجابة و التمويل المتوفر (OCHA, 2022)

اللون البرتقالي يعبر عن التمويل اللازم لتغطية الاحتياج في سوريا حسب خطة الاستجابة الإنسانية HRP و حسب الأعوام، بينما يعبر اللون الأزرق عن حجم التمويل الذي تم تأمينه من مجمل الاحتياج. الشكل أعلاه يظهر ارتفاع حجم التمويل اللازم في الأعوام 2020-21-22، بينما يظهر أيضاً أن ما وصل كاستجابة للالتزام انخفض من 57% في سنة 2020 ل 45% فقط في 2021. حتى الآن حددت الأوتشا مبلغ 4.2 مليار دولار للاستجابة لاحتياج 14.6 مليون سوري، و لكن للآن لا يوجد أرقام تعبر عن حجم الالتزام من الداعمين لصالح خطة الاستجابة.

بدمج الشكلين نصل لصورة تمويل إنساني متناقضة يزداد فيها الاحتياج و يتناقص بها التمويل ، و لو كانت الصورة أوضح بمناقشة الأعوام 20-21-22، و فجوات التمويل أصبحت أيضاً أوضح.

ما هي ظاهرة إنهاك الداعم؟

هناك عدة أسباب ممكن اقتراحها لتفسير نقص التمويل الحاصل، و مع الأخذ بعين الاعتبار لعامل الزمن (10 سنوات من الأزمة السورية)، نصل لسبب تتناوله المقالة تحديداً بالتحليل و هو ظاهرة إنهاك المانح أو (Donor Fatigue).

إنهاك الداعم هي ظاهرة تحدث عندما يقرر الداعمين أنهم لا يرغبون بإعطاء أموالهم للأعمال الخيرية، و في سياق العمل الإنساني هي الحالة التي ينخفض أو يتباطأ فيها الدعم من الحكومات و المنظمات الدولية للاستجابات الإنسانية. و من المهم أن نذكر أنه هناك اسم آخر مقابل يطلق في أدبيات العمل الإنساني على ذات الظاهرة و هو إنهاك المساعدات أو Aid fatigue.

ظاهرة إنهاك الداعم هي ظاهرة صامتة بطبيعتها، و غالباً ما تداهم السياقات الإنسانية بالتدريج الذي لا يلاحظ إلا بمقارنة أرقام التمويل و أرقام الإحتياج. في السياق السوري تم استخدام مصطلح إنهاك الداعم لأول مرة في الأزمة السورية عام 2014 في مؤتمر مانحين دعت له الأمم المتحدة و أقيم بالكويت، حينها ظهر مقال شهير بصحيفة الغارديان بعنوان: إنهاك الداعم من أعداء الشعب السوري (Black , 2014) . الرسالة الأممية لم يتم إلتقاطها على ما يبدو، و سياق الأحداث المتصاعد و الذي جعل سوريا هي الأزمة الإنسانية الأشد وطأة على مدى سنوات عديدة، لم يساعد على تنبه أصحاب المصلحة المحليين لخطورة هذه الظاهرة.

أسباب ظاهرة إنهاك الداعم

من المهم دراسة الأسباب على مستويين و هو المستوى العالمي لتوضيح الصورة الأكبر للظاهرة على المستوى الماكروي، و المستوى الآخر هو المستوى الوطني لدراسة عوامل الخطورة على المستوى الميكروي.

الأسباب عالمياً:

فرانسيس فوكوياما و هو كاتب سياسة و تاريخ يتكلم في مقال ( الوباء و النظام السياسي) في صحيفة Foreign Affairs عن الأثر الاقتصادي طويل الأمد على الدعم الإنساني بسبب التداعيات الاقتصادية للعدوى على الدول الداعمة، و هذا ما يشكل أحد الأسباب الرئيسية للظاهرة ( Fukuyama, 2020) .

المنافسة المباشرة من أزمات إنسانية جديدة في عالم تزداد فيه النزاع بوتيرة مضطردة يعتبر سبباً مباشراً لنقص الاهتمام و بالتالي نقص التمويل و الذي ينطلق من حيث المبدأ من صندوق تمويل واحد كبير. (Akik, et al., 2020) أفغانستان كانت نقطة انعطاف كبيرة في توجه بوصلة التمويل عن الأزمة السورية، و من ثم كانت الحرب الأوكرانية هي الأزمة التي جذبت اهتمام العالم الغربي و الداعم المالي الأساسي و ذلك على حساب الاهتمام بسياقات مزمنة أخرى.

هناك سبب من المهم التطرق إليه وهو آلية العمل الإنساني الحالية و التي تفتقد مع الوقت قدرتها على إقناع الحكومات بجدواها، فالسؤال الأشهر في السياق الإنساني حالياً (كيف من الممكن الاستجابة بطريقة أفضل؟). السؤال حول فعالية آلية المساعدات الأممية أساساً و الدولية تالياً هو أحد الأسباب التي لا يمكن تجاوزها و هي مما ناقشته قمة اسطنبول فيما دعي لاحقاً ب (الصفقة الكبرى). السؤال لا يتعلق بالفعالية و لكن أيضاً بالفاعلية، و هذا ما يجعل مصداقية المساعدات على المحك، فتشظي الدعم و آليات التنسيق الحالية تؤدي لفقدان نسبة محترمة من التمويل في قنوات التمويل من المصدر و حتى المستفيد الأخير.

الأسباب محلياً:

المستويات البدائية للمناصرة ضمن منظمات المجتمع المدني و العمل الإنساني السورية تعتبر عاملاً مهماً لتفاقم الظاهرة، فالجهود تنصب فقط على مستوى الفجوات المناطقية دون وجود جهد جمعي مركز باتجاه خطة وطنية أو تحت وطنية للمناصرة. ضعف الدعم للحوكمة الصحية في شمال غرب و بمستوى أقل في شمال شرق يشكل مأزق حقيقي لتطور آليات المناصرة و أدواتها.

ضعف المساءلة في سياق العمل الإنساني في سوريا يعد عامل مهم لتعزيز تعب الداعمين، و يعززه المقاربة الحالية لإدارة المشاريع (الإدارة عن بعد، و المراقبة عن بعد) من قبل المنظمات الأجنبية و الداعمين. ابتعاد الداعم و المنظمات الدولية عن التنفيذ المباشر و الوصول للمستفيدين يجعل آليات المساءلة هي آليات بالوكالة، و بالتالي تثير تساؤلات عن جدواها و بالتالي جدوى تقديم الخدمة و حجم الفساد المنضوي في طياتها.

عامل الزمن هو سبب آخر لإنهاك الداعم. و رغم أن الزمن هو سبب خارجي و داخلي، فإن مما يفاقم هذا العامل داخلياً هو تعامل الداعمين مع ذات الوجوه و ذات الإدارات لمنظمات العمل الإنساني، فتقع العملية برمتها في فخ الرتابة و تكرار الأفكار، رغم أن أهم خصيصة للعمل الإنساني هو تأقلمه المستمر مع العوامل الخارجية.

الحلول:

رغم إيماني الكبير بأن الحل لهذه الظاهرة هو جهد جمعي من المنظمات الوطنية السورية و صانعي القرار الإنسانيين السوريين، إلا أنني أحاول في الأسطر التالية إعطاء مساحات تفكير بحلول، قد تجنب السوريين الأثر السلبي لنقص الدعم الإنساني وهو أحد أهم شرايين الحياة لملايين من المشردين و اللاجئين. هذه المساحات يجب أن تتركز فيما يلي:

– طرح مشاريع تنموية على الداعمين في محاولة لكسر الصورة النمطية الحالية للمشاريع الطارئة، هذا التغيير في مقاربة الاستجابة الإنسانية ضرورية لتحفيز الداعم باتجاهات جديدة.

– العمل أكثر على إظهار الأثر النوعي للمشاريع و البناء على هذا الأثر، هذا يكون بزيادة كم و نوع دراسات الأثر التالية لتنفيذ مشاريع العمل الإنساني.

– توسيع خريطة الدعم الإنساني للأزمة السورية عن طريق التواصل مع داعمين جدد غير منخرطين بعد في الاستجابة السورية. هذه المقاربة تحتاج لتنسيق حقيقي مع الجاليات السورية في البلدان المتطورة.

– محاولة ضغط النفقات الإدارية المساعدة في المشاريع الإنسانية بحيث لا تتجاوز بأحسن الأحوال ١٥٪ . تخفيف الهدر عبر سلسلة الدعم الإنساني هو عامل مهم لزيادة الفعالية و جذب الدعم من خارج الصناديق الحكومية.

– إعداد خطة وطنية أو تحت وطنية للمناصرة تحتوي بداخلها تمثيل حقيقي لأصحاب المصلحة، و أن تكون الخطة مبنية على آليات و لغة تواصل حديثة قادرة للوصول للداعمين. هذه الخطة يجب أن تتصف بالمرونة من جانب و بوضوح الرؤية و الأهداف من جانب آخر.

– إقناع الداعمين بوجود تغيير حقيقي جاذب لتدخلهم يستوجب تعديل آليات العمل الوطنية، تغيير دماء إدارت المنظمات الوطنية بدماء جديدة قادرة على تطوير العمل الإنساني في السياق المحلي.

أخيراً، ظاهرة إنهاك الداعم هي ظاهرة تؤثر سلباً على حياة السوريين، و تقلل من فرص تعافيهم. إنهاك الداعم هو نتيجة حتمية لعوامل لا نستطيع تغييرها كالزمن و النزاعات الأخرى، و لكنها في ذات الوقت أثر لممارسات خاطئة للعمل الإنساني على المستويين المحلي و العالمي. إن مقاومة أثر هذه الظاهرة ممكن و يحتاج لتضافر جهود السوريين أولاً لدراسة الظاهرة، تحليلها و اقتراح الحلول المناسبة لها.

د.صلاح الدين صفدي
تقوية النظام الصحي شمال غرب سوريا