روايتان تتحدثان عن الرقة وعن أهلها، رواية يوسف دعيس “باب الأبواب” التي تنقل الحب والمعاناة والتقلبات اليومية لحياة أهل الرقة، ورواية “كنت في الرقة” لـلداعشي السابق محمد الفاهم (أبو زكرياء) التي كتبها عنه هادي يحمد، والتي تتناول أهل الرقة بتكبر، وتستنكر عدم قبولهم دولة داعش التي هجر بطلها أهله في تونس من أجل دعمها ومساندة خليفتها البغدادي!

صدرت رواية الكاتب يوسف دعيس “باب الأبواب” مطلع العام الحالي، لتعيد إلى الأذهان حال أهل الرقة ومعاناتهم مع التنظيمات التكفيرية وأبرزها داعش، في سياق سيرة عائلية طويلة لآل الدربندي الذين وصلوا من شمال القفقاس عابرين تركيا إلى البوكمال ودير الزور وصولًا إلى الرقة التي أحبوها وأحبتهم، فعطا الله عندما يضطر للخروج والهجرة إلى تركيا يبكي الرقة، ويجد نفسه غريبًا بعد أن فارق المدينة التي أحبها.



تحتل الرقة مساحة واسعة من صفحات روايتي “باب الأبواب” و “كنت في الرقة”، فعطا الله أحد أبطال رواية “باب الأبواب” هو الشاب الذكي الذي يتفتح ذهنه في الرقة، ويتألق بذكائه وبقدرته على فهم العالم من حوله عبر القراءة والمواظبة على الدروس، فمنذ أن كان صغيرًا كان يحفظ أجزاء من القرآن، ويُحاط بدعم والدته فاطمة تنكيز التي تفتخر به وبتفوقه، ويصبح أملًا لها وسط شقاء الحياة وضغوطاتها وتقلبات زوجها المزاجيّة وإدمانه على الخمر والسهر، وتناوله للحياة بلا مبالاة ممتزجة بالشجاعة.

أما رواية “كنت في الرقة” فتتناول الرقة كحلم طوباوي لبناء دولة إسلامية تنتهج منهج السلفية الجهادية، وتعتمد التكفير معيارًا للتفريق بينها وبين العوام الذين يخضعون لها (تستعمل داعش لفظة العوام كشكل من أشكال العزل والتحقير)، وتتناول الرواية أهل الرقة بتكبّر إلى حد التقزز، لأنهم يرفضون الانخراط في أوهامها وفي عدوانيتها التي أسفرت عن تدمير الرقة وتهجير أهلها بالتعاون مع نظام الأسد الذي ابتدأ التدمير والتهجير في الرقة مع تاريخ تحريرها في آذار 2013.

ولا يخفي بطل الرواية احتقاره لأهل الرقة، إذ يصفهم بالغباء والسذاجة على عكس التوانسة من الدواعش الذين، كما يزعم، هم أكثر ذكاء، ولكنه يقرّ بأنهم كانوا شديدي العدوانية، ويعترف “أبو زكرياء” بأنه كان يتلذذ بزيادة معاناة أهل الرقة، إذ كان يتصل بجهاز الحسبة لملاحقة هذا الشخص أو تلك المرأة بسبب أمور تافهة، وأحيانًا يوقفهم حتى تأتي الدورية التي تلقي القبض عليهم، فهو يعلن العداء التام لأهل الرقة، ويعتبرهم عبئًا على داعش وعلى الخلافة البغدادية، رغم أنه يستعرض الشقق التي استولى عليها بعد تهجير أصحابها، ويعيش في بيوت أنيقة كانت تشكل كل جنى العمر لأهلها، حتى إنه يستنكر تأخر داعش عن إعلان تكفير أهلها جميعًا تحت ذرائع وفتاوى تبيح قتل كل من لا ينضم إلى داعش، ويمتد الأمر إلى وجوب قتل كل من لا يمارس هذا التكفير سواء بطريقة التجاهل وغض النظر، أو بحجة الحفاظ على أهل الرقة لاستخدامهم كدروع بشرية لحماية كيان الدولة الداعشي الذي يتعرض للقصف والعداء من كل الأطراف.

تؤرخ رواية “باب الأبواب” أيام الرقة وتواريخ القصف عليها واستقبالها للنازحين من كل المدن السورية المنكوبة، وتسجّل تصاعد عدوانية داعش على أهلها إلى درجة العداء العلني. بينما تتناول رواية “كنت في الرقة” طرق استقبال المهاجرين الجهاديين إليها عبر تركيا والمحطات التي يمرون عبرها اعتبارًا من مضافة أم الجهاديين في اسطنبول التي تسلب من القادمين أوراقهم، ويتولى أعوانها تسفيرهم إلى أورفا التركية ريثما يعبرون إلى مضافات الاستقبال في تل أبيض، ليخضعوا إلى تحقيق من قِبل الأمنيين الملثمين، الذين ينقلونهم فيما بعد إلى الكتائب والمدن والجبهات المشتعلة.

في الوقت الذي يعاني أهل الرقة الأمرّين من رجال داعش، يكون بطل رواية “كنت في الرقة” (أبو زكرياء) يربي الحمام في بيت سلبه من أرملة صديقه التونسي المكنّى “أبو الشهيد”، والذي سلبه هو من أحد أبناء الرقة، ويتحدث عن ذبحه للخراف وإقامة السهرات بين الدواعش من التوانسة الذين يتردد إليهم، فعدد التوانسة وصل إلى أكثر من ثلاثة آلاف، كما تقول الرواية، يحتلون البيوت ويمارسون العدوانية ضد أهل الرقة مع غيرهم من الدواعش، بحجة أنهم غير مدافعين عن داعش وعن مبادئها التي يفتخر بها، ويورد بطل الرواية “أبو زكرياء” تغييرهم اسم جامع “الفردوس” إلى جامع “التوانسة”، بالإضافة إلى إدمانهم على المقاهي التي تعج بمخبري داعش الذين يتجسسون على أهالي الرقة، ويترصدون كذلك سلوك المهاجرين الدواعش الذين صاروا في المرحلة الأخيرة ضحية النهج العدواني الذي زرعوه، وتبيّن لهم أن دولة الخلافة المزعومة مجرد عصابة تشبه مخابرات الأسد التي تلتهم الجميع بلا رحمة.

يصوّر يوسف دعيس الرقة بكل معاناتها، ويوثق معاناة أهلها تحت البراميل المتفجرة، ويوثق اختفاء الأب باولو الذي كان ضيفًا عند عطا الله، وينقل وصيته قبل أن يبتلعه الإرهاب الداعشي الذي لا يشبع من امتهان الناس، ولا من زيادة معاناتهم بمعاركه الدونكيشوتية التي يموت فيها الآلاف من المغرر بهم باسم الإسلام.

رواية “باب الأبواب” تعيد الأشياء إلى حقيقتها بعد الظلم الكبير الذي تعرّض له أهل الرقة، واتهامهم من قبل أعوان النظام بأنهم حاضنة للدواعش، وترصد الأحداث الكبيرة في أيامهم بكل أفراحهم في بداية الثورة، وأحزانهم التي تسبب بها استيلاء داعش عليها، الذي انتهى إلى تدمير 80% من المدينة فوق رؤوس من تبقى منهم، فأخت عطا الله ترفض الخروج وتتمسك بالمكان، ولكنها عندما تفقد الأمل وتحاول الخروج فإن ابنها الوحيد يذهب ضحية الألغام والقصف، وينتهي بها الأمر إلى معسكرات التحقيق التي نصبتها قوات “قسد” لأهل الرقة في مدينة عين عيسى.

روايتان تتناولان المكان الذي اسمه الرقة، رواية تتحدث عن الناس وعن حلمهم بالحرية ومعاناتهم هي “باب الأبواب”، ورواية أخرى هي” كنت في الرقة” لسائح جهادي يمارس كل أنواع الغطرسة ضد الناس وضد أهل المكان حتى تلتهمه الشكوك الداعشية والفتاوى القاتلة التي تدفعه إلى التنكر بزي أبناء المنطقة من أجل أن ينجو ويعود إلى أمه وزوجته في تونس، بعد أن لوّع قلوب الكثير من الأمهات بجرائمه، وبعد كل الولائم التي التهمها، وبعد كل الغطرسة التي مارسها على أهل الرقة.

رواية “باب الأبواب” كتبها يوسف دعيس، وأصدرتها دار “فضاءات للنشر والتوزيع” 2021.

رواية “كنت في الرقة- هارب من الدولة الإسلامية” كتبها هادي يحمد، عن ذكريات الداعشي السابق محمد الفاهم الملقب بـ”أبو زكرياء”، صدرت عن دار “نقوش عربية” 2018 ط3.

مقال إبراهيم العلوش في جريدة عنب بلدي