بشير البكر|عن المدن

أولى المحافظات التي خرجت عن سيطرة النظام السوري كانت الرقة في آذار 2013، لكن عملية التحرير لم تكن نزهة في يوم صاف، بل صعبة ومركبة تداخلت فيها مجموعة من العوامل التي أدت إلى انتكاسة التجربة وسقوطها، بعد وقت قصير، في يد الثورة المضادة التي تشكلت من خليط من موالي النظام والتنظيمات المتطرفة مثل جبهة النصرة وداعش، بالاضافة إلى الفصائل التي حملت أسماء ذات صبغة إسلامية، لكنها كانت عبارة عن مشاريع بعضها استخباراتي، والآخر ذو طبيعة مافيوية للاستثمار في الفوضى التي سادت منذ بدايات الحراك السلمي في آذار 2011، وذلك بتخطيط من النظام الذي استخدم من الوسائل والأساليب ما لا يخطر في بال من أجل تخريب الحراك السلمي.

وشكلت محافظة الرقة في الثورة حالة خاصة مختلفة عن المحافظات المحيطة بها، سواء دير الزور من الشرق أو حلب من الغرب، وساعدت تركيبتها السكانية المتجانسة بين الريف والمدينة وموقعها الجغرافي على تمييزها عن المدن الأخرى، ورغم أنها مثلت سبقاً بين مدن شرق سوريا ذات الأوضاع المتقاربة من حيث التمييز الذي مارسه النظام في الشرق السوري، فإنها لقيت إهمالاً، مثلها مثل دير الزور والحسكة، ولم تعرها الهيئات التي تصدرت تمثيل الثورة الاهتمام الكافي إعلامياً وسياسياً حتى اليوم، ما يجعل تجربة الرقة مفصلية في المسألة السورية، ومن دراسة المحطات التي مرت بها أمراً غاية في الأهمية. وكما أشرت، فهي السباقة إلى التحرير، لكنها هي التي تعرضت للتدمير بشكل شبه كامل في الحرب التي خاضها التحالف الدولي وقوات سوريا الديموقراطية (قسد) ضد داعش، ولذلك ضاعت كافة التفاصيل وحتى الوثائق والسجلات التي تساعد على إعادة تركيب هذا الوضع، وبقي الكثير من الألغاز التي لم تجد حلاً والأسئلة بلا أجوبة. وإلى اليوم لم تقم جهة محلية أو دولية بنوع من كشف حساب يقدم صورة شبه متكاملة عن هذه التجربة الخاصة في الثورة السورية.

في هذا الإطار يأتي الكتاب الذي صدر مؤخراً في اسطنبول، عن “دار موزاييك”، للكاتب معبد الحسون، تحت عنوان: “الرقة والثورة.. من التحرير إلى التدمير”. والمؤلف من الوجوه المعروفة في مدينة الرقة، وقضى في سجون المزة، تدمر، وصيدنايا أكثر من 11 عاماً بسبب انتمائه إلى الحزب الشيوعي السوري -المكتب السياسي، وعرف الحرية في العام 1991. وهو يسجل في هذا الكتاب الذي يتكون من 385 صفحة من القطع الكبير، تجربته الشخصية في حراك مدينة الرقة من البدايات في 10 آذار يوم اطلاق النار من قبل قوات النظام على المتظاهرين السلميين ومقتل الشاب علي البابنسي، حتى كانون الثاني 2014 عندما سيطر تنظيم داعش على المدينة. وزاوج في التدوين بين التجربة الذاتية التي عاشها كأحد ناشطي الحراك المدني، ومن بعد ذلك تشكيل أولى كتائب الجيش الحر في المحافظة التي حملت اسم صلاح الدين، والتي كونت مع كتيبة ثوار الرقة حالة خاصة في المحافظة ضد قطبي التخريب داعش والنظام.

ليس هدفي هنا تقديم عرض للكتاب وهو يستحق أكثر من ذلك، لأنه يوفر رواية كاملة عن تجربة الرقة في طورها الأول من تحريرها من النظام حتى سقوطها بيد داعش، بل أريد لفت الانتباه إلى ما قام به المؤلف الذي اعتمد التدوين لتسجيل كم كبير من الوقائع والتفاصيل التي عرفتها محافظة الرقة، وقدم ذلك بالتواريخ والأسماء والصور والكثير من البورتريهات الخاصة بشباب الحراك الثوري وأنصار النظام ومنتسبي داعش. ولم يغفل المؤلف أدق التفاصيل، ومن ذلك أول بارودة حملتها الكتيبة التي شكلها (كتيبة صلاح الدين) بمعية شباب من المحافظة، وهي تعود لجندي من درعا ساعده الكاتب على الانشقاق فترك بندقيته وذخيرتها، وهو يغادر خارجاً باتجاه تركيا، في حين جرى شراء البارودة الثانية من السوق السوداء. كتيبة بدأت ببارودتين، لكنها تطورت وشكلت حالة مع كتيبة “ثوار الرقة” في مواجهة النظام وداعش، وكانت مرشحة لأن تطرد النظام وداعش من المنطقة لو توفر لها الدعم من القوى الدولية والائتلاف السوري لقوى الثورة والمعارضة.

يقدم كتاب الحسون مادة غنية تفيد للتعرف على جانب أساسي مما حصل في محافظة الرقة، وهو الكتاب الوحيد حتى الآن الذي سجل تفاصيل حدث الرقة على مدى ثلاثة أعوام، وعليه فإنه يسد نقصاً وفجوة كبيرة تمتد من الحرب على داعش حتى بدايات الحراك السلمي. ويثير الكتاب مسألة توثيق تجارب الفاعلين والناشطين في الثورة السورية، وحتى الآن ما زالت قليلة الشهادات الشاملة التي بادر أصحابها إلى نشرها، ومن المؤكد أن نشر الشهادات متأخرة لا يفقدها أهميتها ودورها في حفظ الذاكرة وتسجيل الحدث، لكن كلما عجّل أصحابها في نشرها كلما كانت ذات فائدة أكبر. وآمل أن تحرض شهادة الحسون فاعلين آخرين على تدوين تجاربهم، التي هي في نهاية الأمر تسجيل لتاريخ الثورة بشكل من الأشكال، ليس من أجل حفظها من الضياع فحسب، وإنما أيضاً من أجل تعرية واقع ما زالت سوريا تعيشه. وبالتالي توفر الشهادة معلومات وافية لمن يريد دراسة وإعادة تقييم تجربة الرقة، ويشكل ذلك دليلاً مهماً للهيئات التي تمثل الثورة وتقع عليها هذه المسؤولية من أجل فهم دروس التجربة والاستفادة منها لتقديم العون المطلوب لأهالي الرقة، سواء الذين فقدوا منازلهم وتهجروا، أو اولئك الذين يعيشون بين الركام، ويمكن الانطلاق منها لتحديد الكثير من الاحداثيات في المدينة حينما تبدأ حركة الإعمار.

تشكل شهادة الحسون الوثيقة الوحيدة الشاملة عن تجربة مدينة الرقة، وربما عن تجارب كل المدن السورية التي عاشت الثورة، والتي يمكن الاعتماد عليها من أجل إعادة تركيب الصورة البانورامية المتباعدة والمفخخة وغير المفهومة أحياناً، من بداية الحراك السلمي، وصولاً إلى مرحلة ظهور داعش واخواتها، حتى اليوم. وتحفل الشهادة بمعلومات على درجة عالية من الأهمية حول بدايات جبهة النصرة وداعش في المحافظة والعلاقة بينهما وبين النظام، ويكشف بالإسماء عن أدوار ضباط من المخابرات الجوية، مثل اللواء أديب نمر سلامة، في تمهيد الأرض في المحافظة، أمام تكوين داعش ودعم النصرة واختراق بقية التنظيمات مثل أحرار الشام وحتى الائتلاف. ويكشف الكتاب، آلية عمل النظام الذي بنى أجهزة أمن في جميع القطاعات في المحافظة وعلى المستويات كافة، وهو ما جعل من إسقاطه مهمة صعبة، واقتلاعه من جذوره مهمة مستحيلة، ولذلك استطاع أن يتكيف مع كل الأوضاع التي عرفتها المحافظة بفضل القدرة غير المحدودة على التخريب.

“الرقة والثورة.. من التحرير إلى التدمير” لمعبد الحسون

المصدر: المدن