يردد بعض الأتراك البسطاء كلمة “سوريا بطناج” منسوبة لرئيس الوزراء التركي الراحل “عدنان مندريس”، والذي أعدم عام 1961 بعد انقلاب عسكري أنهى عقدا من حكمه، ودائما تأتي ضمن سياق الحديث عن التدخل العسكري لبلادهم شمالي سوريا، محاولين مقارنة بين الرئيس “رجب طيب أردوغان” و”مندريس” وقدرة كل منهما موازنة علاقته مع الأمريكيين والروس.
تصدق هذه الكلمة حتى لو لم يقلها “مندريس” مع تصاعد حجم التوتر في إدلب وحلب بين الأتراك والروس الذين يحمون نظام الأسد، رغم سقوط جنود من الجيش التركي بقذائف قواته، إلى جانب وجود أوجه شبه بين الزعيمين من حيث الفوز بجولات انتخابية متتالية مع محاولتها الحفاظ على علاقات متوازنة مع الروس والأمريكيين للحصول على السلاح والدعم لمشاريع البنى التحتية مع تعرضهما لمحاولات انقلابية، قتلت إحداها “مندريس”، فيما قوت آخرها موقف أردوغان وأحكمت قبضته على الجيش.
ما يبرر مقارنة الأتراك تصرفات الرئيس التركي “رجب طيب أردوغان” بما حاول فعله الراحل “مندريس”، هو الموقف الصعب للجيش التركي شمالي سوريا، والذي يمكن وصفه بـ”التوحل” أو “الانزلاق” خصوصا إذا تخلفت واشنطن عن مساعدة أنقرة على الأقل شرق الفرات، حيث تمددت روسيا والنظام بعد الاتفاق مع الأكراد وتركيا معا، مستفيدين من عملية “نبع السلام” التي تحملت تركيا أعباءها العسكرية والمالية والسياسية منذ إطلاقها تشرين أول/أكتوبر الماضي.
تاريخيا، كانت نتائج تحركات تركيا على الحدود السورية عكسية، فكان الساسة الأتراك والأمريكان حريصون على عدم وقوع دمشق في يد روسيا الشيوعية، لكنها في كل مرة تدفع دفعا إلى أحضان الروس وحلفائهم بالمنطقة، وأهمها تنازل الرئيس السوري الأسبق “شكري القوتلي” عن الحكم للرئيس المصري جمال عبد الناصر في إطار وحدة 1958 بين البلدين العربيين، ثم منح الروس الامتيازات كافة بعد وصول البعثيين لحكم البلاد.
وفي عهد “سليمان ديمريل” و”مسعود يلماز” هددت تركيا عام 1998 باجتياح الحدود السورية ضغطا على نظام الأسد بهدف التخلي عن زعيم حزب العمال الكردستاني (PKK)، والذي تتحالف قواته اليوم مع الأمريكان والروس في الوقت ذاته، وكأنها تحاول اللعب مع أنقرة بذات الأسلوب.
اليوم تغيرت الظروف بعض الشيء، فالجيش الأمريكي حاليا يسيطر على معظم شرق البلاد الغني بالنفط مع حلفاء محليين (الأكراد)، وهم يحتكون بالروس والنظام وإيران بشكل يومي، ويؤيدهم بشكل غير مباشر مصر ودول الخليج العربي ضد التدخل التركي الذي بدأ صيف عام 2016 بعملية “درع الفرات”، رغم أنهم جزء من التحالف الدولي ضد تنظيم “الدولة الإسلامية” في سوريا والعراق.
واستمرار إرسال الجيش التركي تعزيزات من القوات الخاصة إلى داخل سوريا سواء في إدلب وحلب أو الرقة والحسكة شرق الفرات، يؤكد استعداد أنقرة لما يمكن أن يكون أسوأ نتيجة لعدم التزام موسكو بما تعهدت به، إضافة إلى فشل اللقاءات بين الجانبين في العاصمة التركية، ودخول الأمريكان على الخط من جديد بالتلويح بدعم تركيا بعد انسحابهم إلى ما بعد مدينة “تل تمر” عقدة مواصلات طريق M4، حيث مازالت القوات الأمريكية تقفلها بوجه الدوريات الروسية نحو القامشلي والحسكة.
وتبرز حاجة تركيا لدعم أوربي وغربي لمواجهة روسيا، في تصريحات وزير الخارجية مولود تشاووش أوغلو من ألمانيا، حول عزم بلاده إرسال وفد يوم الإثنين إلى روسيا للتباحث حول الأوضاع في إدلب، ورغبة تركيا في رؤية دعم أوضح من ألمانيا والدول الأوروبية، إلى جانب الدعم الذي تقدمه بريطانيا والولايات المتحدة، لترسيخ وقف إطلاق النار شمال غرب سوريا بموجب اتفاقات عام 2018 لخفض التصعيد.
بالتأكيد، الحكومة التركية بموقف لا تحسد عليه أمام المواطنين الأتراك وأحزاب المعارضة داخل البلاد، بعد مقتل وجرح العشرات من الجنود بقذائف قوات النظام وحلفائه وأيضا بمفخخات حزب “الاتحاد الديمقراطي”، والتي تركت بدون رد مناسب باستثناء قصف المدفعي محدود وبالطائرات المسيرة مع إعلان عدد القتلى من قوات النظام ومسلحي الأحزاب الكردية.
في السابق، جاءت نتائج التهديدات التركية بالتدخل عكسية حين دفعت دمشق في عهد القوتلي بشكل أكبر إلى أحضان روسيا السوفيتية ومصر الناصرية واستنفرت إذاعات القاهرة أقوى الأذرع الإعلامية آنذاك ضدها، وأيضا في عهد حافظ الأسد سارت دمشق إلى أحضان الروس والمصريين والإيرانيين دون أن يعزز ذلك علاقة الأمريكيين بالأتراك، وتقريبا هذا ما حصل اليوم دخلت روسيا إدلب ومناطق النفوذ الأمريكي شرق الفرات مقابل منح تركيا حق التدخل بمنطقتي “رأس العين وتل أبيض” العربيتين دون معاقل حزب “الاتحاد الديمقراطي” الرئيسية بالمدن الكردية.
ويرى أردوغان بأن العمليات العسكرية الثلاث مع اتفاق خفض التصعيد كانت “ناجحة”، وقد تكون كذلك من جهة انتشرا الجيش التركي ووضع عوائق أمام مشروع الكيان الكردي، رغم أن تلك المناطق تعيش أوضاعا اقتصادية صعبة وفوضى أمنية عارمة تبرز بالانفجارات شبه اليومية، وكأن الروس والأمريكان استدرجا تركيا للتورط أكثر بسوريا.
في النهاية، لا يمكن النظر الى هذه التطورات باعتبارها ردة فعل آنية على الأحداث، بل هي خطوات يسعى تراك للاستفادة منها لتحقيق خطوة كبيرة نحو مدينتي حلب والموصل عبر السيطرة على الطريق بينهما، وتحقيق الشريط الآمن تحت حمايتهم أو ما يسمى “المنطقة الآمنة” وبالتالي القضاء على مشروع الأحزاب الكردية بإنشاء كيان شبه مستقل على حدودهم الجنوبية، لكن هذا بالتأكيد على حساب تقييد فصائل الثورة السورية باتفاقات ليست طرفا فيها.