اسم الكاتب وصورته
صورة الكاتب محمـد العلـي

العقلية العشائرية، لعنة لا تزال تطاردنا تختبئ تحت قشرة الدولة والمجتمع المدني، ثم تنفجر عند أول احتكاك، هذا مألوف بمجتمع الجزيرة السورية والبادية، لكني استغربت اليوم كلام شخصيات تحمل لقب دكتور على الشاشة الرسمية تقول: ما بالكم تساوون بين قص شعر الشوارب وبين مقتل جندي نصب مجلس عزاء في بيت أهله”!

كسوريين ننتظر دولة تحقّ الحق وتقتصّ من القاتل وتُنصف المظلوم لا منظومات اجتماعية تنحدر بنا إلى منطق القبيلة، حيث تُدار العدالة بردّات فعل ثأرية، وتُرتكب الجرائم الجماعية من جميع الأطراف، فلا نريد مقارنات لو سحبناها على أنفسنا لكان دفع الحياة ثمن لها رخيصة على أساس ديني أو عشائري و على أساس الكرامة، التي هي المبدأ الأول للثورة السورية، عندما نطق رجل ليقول على شاشة الجزيرة: “أنا انسان ماني حيوان”.

تتحمل الحكومة السورية، رغم كل تعقيدات المشهد في الجنوب المسؤولية، فكل ما حصل كان متوقعا بما فيه الهجمات الإسرائيلية المساندة لميليشيات الهجري ومجلسه العسكري التي أوقعت عشرات الضحايا والجرحى هذا عدا عن ضحايا المواجهات ..إذن لماذا لم يعمل المسؤولون في الحكومة على تجنب وقوعه بالحكمة والعقل والتخطيط وابعاد الفصائل غير المنضبطة عن الساحة!

فحين تكون الفصائلية حاضرة أو العشيرة وعقليتها هي الحَكم، يغيب كل ذلك ويصبح القاتل “ابن” عشيرته ويجب الدفاع عنه ظالما ومظلوما بحرفية الكلام لا بمقصده الأساسي، وتُصبح الضحية هامشًا، و ربما يبالغ أهل الضحية بردة فعلهم لدرجة الانتقام ممن لا علاقة له بالحادث أو الجريمة كما حاول مسلحو السويداء الانتقام من جيرانهم لحادثة ارتكبت قرب دمشق!

وللأسف عادة ما تتحول بيوت الأبرياء إلى رماد في ردود الأفعال هذه، وتمسي النساء نائحات، وكبار السن مُهانين فقط لأنهم ينتمون إلى عائلة المجرم أو عشيرته أو طائفته.

هذه ليست “نخوة” ولا “رجولة” ومع ذلك هي مشاهد تتكرر بمناطقنا شرق سوريا أيضا، هذا انفلات دموي يستند إلى أعراف قبلية متعفّنة، تتغذى على الثأر وتُكرّس الولاء الأعمى للعصبية ضد العدالة، ولا نريد لهذا الأسلوب أن يتحول إلى قانون عام على امتداد الجغرافيا السورية في حين تغيب صفات رجال القبائل النبيلة من الحكمة والصبر والعفو والشجاعة وغيرها.

نعم، من يقتل بغير حق، يجب أن يُحاسب، الدين قالها بوضوح: “النفس بالنفس”، لكننا اليوم لا يحاسب القاتل فقط أو المحرض، بل نحرق البيوت، ونشرّد الأطفال، ونعتقل من لا علاقة لهم بالجريمة سوى أنهم ينتمون لعشيرة المجرم، وهذا حصل بأرياف القامشلي قبل أسابيع، هذا بأي منطق؟

في أحداث السويداء الأخيرة، قُتل محمود السرميني، شاب من حمص، عنصر في وزارة الدفاع، وحيد والدته، قُتل بدمٍ بارد، عندما كان ضمن القوات الحكومية التي ذهبت تحت عنوان “فض النزاع” في ساحة تصفية حسابات مناطقية بين رجال عشائر البدو والمسلحين الدروز، الجريمة صادمة بحدّ ذاتها، لكن الأكثر فظاعة هو ما تبعها: حرق جثته.

تسأل بعض الأصوات: “ليش زعلانين على قص الشوارب وما تشوفون هذه الجريمة النكراء”؟! نعم شاهدنا وتابعنا صور الضحايا في مشفى السويداء من الأمن العام والمدنيين!

لكن أي عدالة هذه التي تُبنى على الجريمة؟ على إحراق البيوت؟ على تهجير عائلات بأكملها لأن أحد أفرادها ارتكب خطأ أو جريمة كما يحصل بحالات الثأر العشائرية؟!

هل أصبح “التوحيد” يُنفذ بإذلال الناس؟ ألم يكن هدف الثورة الكرامة؟ ألم يرفع شعار “الموت ولا المذلة” في درعا غير بعيد عن السويداء؟! وقدمت سوريا تحت هذا الشعار نصف مليون شهيد…

وهل صارت العدالة تُقام بالفوضى وهيبة الدولة تبنى عبر إرهاب المجتمعات؟!

حاليا، يُهاجَم المثقفون اليوم لأنهم “زعلانين على بيت حرق أو شارب قص أو شخص شرد”، وكأن رفض الانتقام الجماعي بات خيانة، وكأن الإنسان يجب أن يصمت أمام الجريمة حين يُنفذها من يُشاركه في شعور الغضب أو الطائفة أو الانتماء السياسي.

رغم ذلك، يبقى صوت المثقف هو الضمانة الوحيدة ضد انزلاق المجتمع إلى القاع الذي نقبع فيها حاليا… لا يُمكن أن نصمت على الجريمة باسم “رد الفعل الطبيعي”، ولا أن نُبرّر الإهانة لأنها جاءت من ضحية سابقة ردت على جريمة “عصابة خارجة عن القانون”، هؤلاء بالأخير يمثلون عصابة أفعالهم تمثلها وحسب توصيف الحكومة لهم فإنهم ارتكبوا الجرائم أصلا ولهذا تحركت القوات الحكومية والأمن لقمعهم لا لتقليد أفعالهم.

ما لم يُكسر منطق العشيرة والثأر والولاء الأعمى داخلنا، سنظل ننتقل من جريمة إلى جريمة، ونعيش انتقام بعد انتقام، دون أن نحصد شيئًا سوى المزيد من برك دم تتوسع لتغرق مدن سوريا بحزنها.

العشيرة لا تُبني دولة والطائفة لا تبني دولة، والعصبية أيضا، والتمترس خلف السلاح الحزبي أو الفصائلي سيوسع رقعة الدماء لأن من يحمله يشعر بقوته قبل المعركة ويستسهل خوضها، وحده القانون العادل، هو ما يُنصف المظلوم ويُعاقب الظالم، دون أن يشعل نارًا في بيوت ذوي القاتل المجرم ودون أن يأخذ أهله الأبرياء بجريرته ولا ذنب لهم سوى النسب والانتماء.