مع نهاية عام 2024، شهدت سوريا تحولاً تاريخياً بسقوط نظام بشار الأسد بعد أكثر من خمسة عقود من الحكم. هذا الحدث أعاد فتح النقاش حول مفهوم “التحرير” في سوريا، بين من يعتبر نفسه محرراً ومن يرى أن هذا التحرير ما زال ناقصاً. لكن، في ظل التناقضات الواضحة بين الفصائل السورية ومواقفها المتباينة من النظام، يبرز تساؤل جوهري: هل تحقق التحرير بالمفهوم الذي أراده الشعب السوري؟

في البداية، رفض أحمد الشرع إطلاق اسم “المحرر” عليه (أبو محمد الجولاني)، الذي يراه معظم السوريين بأنه المحرر الذي أسقط بشار الأسد نظراً للتطور الدراماتيكي في نهاية السنة الماضية 2024 التي أخذت معها حقبة حكم الأسد (1970-2024). “ولا شك بأن دماء من سقطوا على مذبح الثورة ساهمت في هذا السقوط، الذي كان ينتظر تغير اتجاه الرياح الدولية لتستطيع “سفينة النصر” الإبحار عكس اتجاه نهر العاصي، الفريد، وكذا كانت الثورة السورية، فريدة، لهذا بدأ انتصارها من قرار اتخذ في غزة غير وجه المنطقة!”

لكن، ما تطرحه الفصائل والجماعات المختلفة على الساحة السورية بخصوص مفهوم “التحرير”، يستند إلى مصالحها بالدرجة الأولى أو مصالح مجتمعاتها المحلية. حتى لو كانت مهادنة لنظام الأسد خلال عقد ونصف من عمر الثورة السورية، فإن هذه النقطة بالتحديد تفسر لماذا يجمع معظم السوريين على أن قوات إدلب حققت التحرير -شكلا على الأقل- بالمفهوم الذي أراده الشعب، حين قال: “الشعب يريد إسقاط النظام”.

كل طرف من قوى الأمر الواقع عمل على توظيف مصطلح “التحرير” بما يخدم روايته، سواء كان ذلك لتحرير الأرض من سيطرة النظام أو من تنظيم داعش أو حتى قوات الطريق الثالث والانفصال والعصابات. لكن الغموض يبرز عندما يتحول “التحرير” إلى أداة سياسية أو إعلامية لتبرير السيطرة لا أكثر.

النقطة التي يجب أن تُثار هي ازدواجية واضحة، بشأن بقاء مربعات أمنية لقوات النظام في مناطق حيوية دون مواجهة مباشرة من بعض الفصائل التي ترفض الآن دخول القوات التي أسقطت الأسد وشُكّلت أصلاً على هذا الأساس. هذه الفصائل لم تُشكّل لحماية منطقة معينة سواء بلون واحد أو بألوان متعددة، مما يثير تساؤلات جوهرية حول أولويات هذه الجهات: وطنية أم مناطقية؟

هل هي قيود فرضتها الظروف الدولية أو توافقات إقليمية؟ أم أنها خيارات استراتيجية تهدف لحماية مكتسباتهم في ظل توازنات قوى هشة؟

“وهنا بكل وضوح، نشير لفصائل الجيش الوطني، التي عملت قبيل سقوط الأسد على فتح معابر تجارية معه تحت حجج مختلفة، وقبل ذلك الفصائل المحلية في درعا التي خضعت لتسويات، وقبل الاثنين فصائل السويداء والقوات الكردية، التي لم يكن لديها مشكلة مع القوات النظامية (الجيش وقوات الأمن) بل كانت تنظم نفسها لتواجه تنظيمات جاءت كنتيجة حتمية لسياسات نظام بشار الأسد الذي أطلق قطعان الشبيحة ثم أفسح المجال للتنظيمات الأكثر تشدداً وركز في البداية على مواجهة فصائل الجيش الحر فقط، لكن الأمر خرج عن سيطرة نظام الأسد بعد أن حقق أول أهدافه هو استنفار المجتمعات السورية الصغيرة التي تشعر بتهديد وجودي، فحملت السلاح وصوبته بالاتجاه الذي خطط له النظام، وبدأت تنظر إليه -النظام- كطوق نجاة في الجنوب وفي الشمال، ولكن مع اختلاف الاستخدام ففي البادية من خطر داعش وعصابات الخطف، وفي الشمال من خطر التدخل التركي!”

إذن، هناك تحرير مناطقي محلي، غالباً بأهداف ذاتية ضيقة أو بدعم خارجي مشروط كالذي حول وحدات حماية الشعب إلى قوات سوريا الديمقراطية (قسد) لمحاربة تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، فلولا الطمع بدعم دولي لما خاضت هذه المعركة أصلا، لا يمكن مقارنته بمشروع وطني شامل هدفه إسقاط النظام. “وربما حتى “هيئة تحرير الشام” في وقت من الأوقات لم تكن تتبنى راية الثورة السورية، قبل أن تدرك أهمية التوازنات الدولية في بلد يجاور إسرائيل ويحتل قلب العالم القديم وربما الحديث.

فالفصائل المرتبطة بأجندات دولية او عابرة للحدود تفقد جزءاً من مشروعيتها الشعبية، بما فيها “تحرير الشام” عندما كانت “جبهة النصرة”، “خاصةً عندما يغيب مشروع الثورة مقابل المشاريع البديلة والرايات البديلة، وبعض الفصائل لم يقرر رفع علم الثورة السورية إلّا بعد أيام من فرار بشار الأسد، لأنها كانت تعتبره علماً لـ”المرتزقة” رغم أن بعض شركائها بالدعم الأمريكي يتخذونه راية لهم، أما بعض ممثلي الطوائف فقابلوا الوفود الغربية وهم مازالوا يرفعون علم نظام الأسد رغم رؤيتهم فظائع السجون!”

هنا يمكن طرح تساؤل مهم: هل تمتلك أي جهة حالياً مشروعاً وطنياً جامعاً؟ أم أن “الثورة” باتت فريسة لمشاريع متفرقة ومتضاربة؟ هذا ما ستكشفه الأشهر القليلة القادمة على أساس تصرفات سلطات الأمر الواقع واسراعها بتوحيد البلاد ليكون الوطن الذين ينسبون وطينتهم إليه جميعا موحدا!

إذن، شعار “من يحرر يقرر” ليس مجرد مقولة عابرة، بل مسؤولية تاريخية. ومع سقوط نظام الأسد، يبقى التحدي الأكبر أمام الفصائل السورية هو تجاوز الانقسامات وخلق مشروع وطني يُحقق حرية وكرامة السوريين في مناطقهم ويشعرهم بالعدالة، وهي أهداف الثورة السورية منذ انطلقت.

وأخيراً، فإن ممارسات بعض الفصائل تشير إلى انحراف مفهوم “التحرير” عن معناه الحقيقي، ما يجعل المحاسبة والنقد ضروريين لتوضيح من يعمل لصالح سوريا ومن يعمل لصالح أجندات أخرى. “فلك أن تتصور أنهم مستعدون بالتضحية بجزء ممن يدعون العمل على حمايتهم فقط لكسب حماية دولية تفرض على من يصل إلى سدة الحكم في دمشق شروطهم، وهذا يؤكد أنهم كانوا يملكون قوة كبيرة، لكنهم فاوضوا الدكتاتور بشار الأسد قاتل الشعب السوري ومدمر البلاد، ولم يتحركوا لإسقاطه في دمشق ولا حتى في مراكز محافظات هي معاقلهم وضيعوا على السوريين فرصة الخلاص من المعاناة بوقت مبكر وعلى أنفسهم حق استخدام شعار “من يحرر يقرر”!”

محمد العلي