في إحدى الجلسات مع بشار الأسد وأثناء الحوار حول التحضير لإصدار جريدة (الدومري)، تحدثت عن طبيعة المواضيع التي سأتناولها بالنقد، ومنها حزب البعث والمخابرات ومجلس الشعب والقضاء والفساد وأحوال المواطنين كما طرحتها بصراحة وبدون مجاملات، وأعتقد أنه كان يستمع إلى هكذا طروحات لأول مرة دون نفاق له أو تدليس.. رأيته يمعن النظر إلي وفجأة وبسرعة بادرني بسؤال: كيف تقيس نبض الشارع؟!
أجبته: انزل الى الشارع وقس نبض الشارع بنفسك!
كنت أحاول أن أدفعه لأن يتقرب من الناس، وهذا ما كنا نفكر به كمجموعة فنانين ومثقفين وكتاب، حاولنا خطفه من موقعه كرئيس نظام محاط بالمخابرات ودوائر الحرس والشرطة إلى الشارع متأملين – أمل إبليس بالجنة – تحويله من مشروع ديكتاتور إلى رئيس يؤمن بالديمقراطية والتعددية.
وأوحى لنا خيالنا المراوغ بأنه قد يمكننا ذلك في وقت ما.. ولا سيما أنه سألني مرة على الهاتف في عام 2000: “بتعتقد اذا ترشحت أنا ومعي مجموعة من المرشحين للرئاسة بتتصور سأنجح؟” (هذا موضوع سأتحدث عنه في حلقة لاحقة) لكننا اعتبرنا أننا بمجرد طرحه هذا السؤال قد نستطيع إقناعه بذلك فيما بعد.. وإن بدا لنا ذلك مستحيلاً، لأن هناك دلائل تشريحية لاحظتُها كرسام في شكل جمجمته، تدل على بلاهة ولؤم وحقد بنفس الوقت… وقد لاحظت مي سكاف ملاحظة روتها لي، وهي أنه لدى تحدثه عن أمر لا يعجبه، أو كان قد انزعج منه سابقاً، هناك عضلة في وجهه فوق الخد وتحت عينه اليسرى، تبدأ بالرجف وتتقلص أسارير وجهه ويتحول إلى شرير!
ومع ذلك فقد كنا نكذب أنفسنا قصداً بغية خطفه وإعادة تدويره لصالحنا، ولصالح الناس.. وفعلاً صار ينزل للمقاهي ويتجول بالشوارع وكان البعض يلتقطون معه الصور التذكارية.. حتى إنه مرة اتصل بي من حلب وكان برفقة مناف طلاس، وأخبرني بأنه يقف أمام دكان صغيرة وهي بالأصل غرفة من بيت حولها الساكن (محمود كرزة) إلى دكان، وقال لي بأنه بينما يشرب “كازوزة” ما لبثت أن تجمعت العائلة التي “تناوقت” عليه من وراء ستارة وبدأت الهمهمة واللغط يتصاعد بين أفراد العائلة.. وبعد قليل تجمع المارة حوله وكان يتحدث معي وهو بحالة انتشاء، وقال:
“فعلاً التقرب من الناس شغلة عظيمة”..
استمرت العلاقة حتى بعد “السلبطة” على كرسي الرئاسة من خلال اعتبارات لا يتسع المجال لذكرها… ورحنا نقحمه في نشاطات فنية ومعارض ومحاضرات ثقافية لمجموعة سوريين مبدعين، ونجمعه مع سينمائيين ومخرجين ومغتربين مبدعين في كل المجالات أثناء زيارتهم لسورية.. وحتى كنت أجمعه بفنانين أجانب من إيطاليا وفرنسا وأمريكا حين يزور بعضهم سورية للسياحة.
كانت مي سكاف وفي كل جلسة تناكفه بفساد المؤسسات المستشري، حتى إن مي سكاف أصبحت هاجساً بالنسبة له وفي كل مكان يأتي على ذكرها بنوع من الأسى الممزوج بالغضب، من أنها دائماً متشائمة وغاضبة ولا يعجبها العجب، ودائماً كان يقول لي:
” شفت شو قالت مي سكاف؟ شفت شو حكت مي سكاف؟”
إلا أن عتاولة المخابرات من بهجت سليمان إلى عامر بدر حسن إلى جميل حسن وغيرهم، انتبهوا إلى أن ثمة أمراً يجري بعيداً عنهم، وهناك عمليات جراحية نفسية وغسيل دماغ وإعادة إنتاج تجري لرئيس المستقبل خارج منظومة الفساد والاستبداد التي ينتمي إليها، وبدأت الملاحقات والاعتقالات وإغلاق الأماكن التي سمح فيها لشبه النقد بنكهة وهم الحرية، وراح “الحرس القديم كما يسمونه” وبالتعاون مع مافيات الحرس الجديد، وجميعهم من البطانة نفسها، بشدّه إلى الوراء من أذنيه (وهذا سبب كبرهما) وجعلوه يقف بوجهه أمام الحائط ورجله مرفوعة كما التلاميذ الكسالى في المدرسة، مع إنذاره برفعه “فلقة” لاحقاً ودهن أذنيه بالزيت وإيداعه غرفة الفئران، فيما لو رأوه مع رفقة السوء والزعران أمثالنا، الذين يسعوا لنصب العدالة ووضع الميزان.
المصدر: أورينت نت – علي فرزات