عندما وقعنا على بيان ال 99 مثقف سوري في 27 سبتمبر 2000 خلال ربيع دمشق الذي أعقب وفاة حافظ الأسد؛ مُطالبين قبل 11 عاماً.. بما طالب به الشعب السوري في ثورته عام 2011.

كانت مطالبنا.. التي تمّت صياغتها بعناية:
1- إلغاء حالة الطوارئ والأحكام العُرفيّة المُطبقة في سورية منذ 1963.
2- إصدار عفوٍ عامٍ عن جميع المُعتقلين السياسيين ومُعتقلي الرأي والضمير والمُلاحقين لأسبابٍ سياسية، والسماح بعودة المُشرّدين والمنفيين.
3- إرساء دولة القانون، وإطلاق الحريات العامة، والاعتراف بالتعدديَّة السياسية والفكرية وحرية الاجتماع والصحافة والتعبير عن الرأي، وتحرير الحياة العامة من القوانين والقيود وأشكال الرقابة المفروضة عليها، بما يسمح للمواطنين التعبير عن مصالحهم المختلفة في إطار توافقٍ جماعيّ وتنافسٍ سِلمِيّ وبناءٍ مُؤسساتي يُتيح للجميع المشاركة في تطوير البلاد وازدهارها.
كما تضمّن تعليقاً ضمنياً على مقولتي: إصلاح النظام من داخله.. التي كان يُراهن عليها كثيرون؛ قبل أن يخرج بشار الأسد بمقولته عن “الشفافية” وعن “التطوير والتحديث”.. حيث أنهينا البيان بما يلي: “إنّ أيّ إصلاح، سواء كان اقتصادياً أم إدارياً أم قانونياً، لن يُحقق الطمأنينة والاستقرار في البلاد، ما لم يُواكِبه، في شكلٍ كامل، وجنباً إلى جنب، الإصلاح السياسيّ المنشود، فهو الوحيد القادر على إيصال مُجتمعنا شيئاً فشيئاً إلى بَرِّ الأمان”.
استنفر النظام بكلّ أجهزة مُخابراته ومؤسساته الحزبية وجبهة أحزابه اللا وطنيّة واللا تقدّمية ضدّ المثقفين والفنانين والصحفيين الذين وقعوا على البيان.. وكان على رأسهم “الرفيق غير المناضل” عبد الحليم خدّام.. برغم الشُبهات عن تورطه مع أبنائه في قضية “النفايات النوويّة” التي تمّ دفنها في التراب السوريّ؛ وتمَّ دفنُ ملفها الغامض.. معها!.

*- جولات خدّامية مكوكية

قام الخدّام آنذاك.. بجولةٍ على 14 محافظة سورية؛ بما فيها: القنيطرة المُدمَرة غيرِ المُحَرّرة؛ مُلتقياً القيادات والمُدراء فيها؛ ومُفتتِحاً من مُدرج جامعة دمشق عام 2001 حملةً ضدّ بيان ال 99 وضدَّ مُنتديات “ربيع دمشق”؛ وضدّ ما تداوله النظام من تسمية “جماعة المجتمع المدني” في إحالةٍ لفظيةٍ مقصودة.. حينما أسماها جماعةً وليس تياراً؛ لتُذكِّرَ قواعدَ النظام ولو من بعيدٍ بتسمية “جماعة الإخوان المسلمين” برغم التنافر الايديولوجيّ والفكري بين “الجماعتين”؛ كما بدأت حملاتٌ أمنيّةٌ مُنظمة للضغط على الموقعين ال 99 لينسحبوا منه.. بالذريعة إيّاها:
هذا ليس توقيعي!.. هناك من زوّره فوقع بدلاً منّي!.
وقد فعل ذلك بعضُ المُوقعين؛ وأحدُهم كان قد وقعَ أمامي على النسخة التي أخذتها إلى حلب لاستكمال توقيع بعض الأصدقاء عليها.
كرَّرَ خدَّام 14 مرَّة -وفي كلّ محافظةٍ- اتهامَنَا بالعمالة للإمبريالية والصهيونية العالمية؛ فأتاهُ الردّ عبر “بيان الألف مثقف سوري” وكانت مطالبنا فيه أكثر تفصيلاً:
1- احترام الحريات السياسية الشاملة.
2- حماية حرية الصحافة والتعبير عن الرأي.
3- إنشاء قضاء مُستقل لا يتبع سياسة الحزب الحاكم، وأن يكون القانون حَكَمًا بين الجميع.
4- تشريع قانون ديمقراطي للانتخابات البرلمانية والرئاسية، وإعادة تقييم الأحزاب في البرلمان السوري المُوالية للنظام، وإعادة إنتاج سياسة أكثر فعالية في المجتمع.
5- احترام وحماية الحقوق الاقتصادية لجميع المواطنين.
6- إنهاء التمييز ضد المرأة.

بينما كان يتبلور “تيّار إعلان دمشق” الذي ضمَّ دُعَاة الديمقراطيّة ودولة المُواطَنَة؛ ولم أوقع على بيانه حين صدر.. لتحفّظي على بعض تحالفاته الجانبيّة وبخاصةٍ.. حين تلا إعلانُ دمشق؛ إعلانٌ آخر من بيروت هو “إعلان بيروت – دمشق” بارَكَه آنذاك البطريرك المارونيّ صفير!.

وتحفّظي يتجلّى على الدوام.. نفوراً راسخاً من إدخال الأديان سماويةً وأرضيّة في السياسة الدُنيويّة؛ وهو ذاتُ الموقف الذي جعلني لا أوقع على بيان تأييد الثورة الإسلاميّة في إيران.. بينما كان يجهَدُ اصدقاء “علمانجيّون ويسارجيّون” على رأسهم أدونيس؛ بإقناعنا أنها ثورةٌ ضدّ الامبريالية والصهيونية؛ ثمّ يُضيفون: وتدعم الكفاح الفلسطيني لاستعادة القدس!.
قائلاً لِمَن يعرِضُ عليَّ البيان لتوقيعه: كلُّ الأنظمة الشمولية: قوميةً أو شيوعيةً أو إسلاميّةً.. تدعم الفلسطينيين بينما تُتاجِر بهم في الأروقة والدهاليز والكواليس!.

وهو ذاتُهُ.. موقفي من التحالف الذي قام في الثمانينات بين تيارٍ شيوعيّ وبين الإخوان المسلمين.. وقد استثمرهُ النظام بذكاءٍ لتحطيم كلِّ حراكٍ سياسيّ أو شعبيّ مُعَارِضٍ له؛ كما عاوَدَ استخدامَهُ بذكاءٍ أيضاً بعد ثورة 2011 حين قام ما تبقّى من تيار “إعلان دمشق” بالتحالف مع “الإخوان المسلمين” مرّةً أخرى في “المجلس الوطني السوري” ثمّ في “ائتلاف قوى المعارضة السورية” على نفس مِنوَالِ ثقافة “المُحَاصَصة” التي كان يُتقنها النظام الأسدي؛ انطلاقاً من الإرث الذي تركه المندوب الفرنسي السامي “الجنرال ساري” في سوريا وفي لبنان؛ وبخاصةٍ.. بعد تعيين الشيخ تاج الدين الحسيني رئيساً لسوريا عام 1941 ولكن.. تحت الانتداب وفي حالة طوارئ مفتوحة؛ شريطة أن يحكم من دون برلمانٍ أو دستور.. حتى انتهاء المعارك في أوروبا خلال “الحرب العالمية الثانية”!.

*- تحالفات وتعويم إعلامي

المُهمّ.. أن خدّام الذي اتهمنا بالعمالة لسفاراتٍ خارجية.. غادر الى باريس عام 2006 بعد خيبته من تَوَلِّي الحُكم بعد حافظ الأسد؛ فأعلن انشقاقه من باريس “مَربط خيلنا”!؛ ثمّ تحالف مع الإخوان المُسلمين السوريين بإعلان “جبهة الخلاص” أملاً بعودته الى دمشق رئيساً بدلَ الوريث الأسديّ الذي اغتال رفيق الحريري بالتحالف مع إيران وحزب الله.

بعد إخفاق “جبهة الخلاص” بات عبد الحليم خدّامَ وحيداً في قصره الباريسي المُستعَار بتوصيةٍ من جاك شيراك لورثة الحريري. وكان الإخوانُ المُسلمون قبل خدَّام يعقدون اللقاءات المُتوالية مع رفعت الأسد؛ لعلّه يكون مدخلَهُم للعودة إلى مُحَاصَصة المناصب. ثمَّ هجروا رفعت أيضاً؛ حين بدأت مُفاوضاتهم السريّة مع الوريث الأسديّ بشار الأسد.. تمهيداً لعودتهم الى دمشق بعفوٍ عامٍ؛ لكن بشار الأسد لم يُكمِل المُحادثات معهم؛ حتى فاجأهم السوريونَ بثورة 2011 فقرَّروا أن يركبوا على أكتافها؛ وأن يَحرفُوها عن مسارها السِلمِيِّ الديمقراطيّ.. بدعمٍ من كلِّ دول “أصدقاء الشعب السوري”الأعداء!.

لم يكُن موتُ خدَّام وحيداً في باريس.. خسارةً لأحد؛ حتى.. للإخوان المُسلمين الذين ترحَّمُوا عليه!. أمّا الخسارة الحقيقية.. فكانت في أسلمَةِ الثورة المدنيَّة السوريّة؛ وفي عَسكَرتِهَا: إخوانياً وسلفياً؛ ثمّ بتدفق إرهابيِّي القاعدة من كلّ الجنسيّات؛ ومن “تنظيم الدولة الإسلامية” بسلاسةٍ وسهولةٍ.. عبر حدود كلِّ الدول المُحِيطَة بسوريا؛ تنفيذاً لخطة “الاحتواء المُزدوَج لثورات الربيع العربي” بل.. لأكثرها جذريةً وتعقيداً: الثورة السورية.

نجم الدين سمّان – مختارات من الصحافة