بعد سقوط نظام بشار الأسد، تسعى إدارة أحمد الشرع إلى إعادة بناء الدولة واستعادة سيادتها. في هذا السياق، تأتي زيارة وفد روسيا الاتحادية برئاسة ميخائيل بوغدانوف، المبعوث الخاص للشرق الأوسط، إلى دمشق كخطوة استراتيجية تهدف إلى تعزيز العلاقات الثنائية ومناقشة قضايا محورية، أبرزها احترام سيادة سوريا وسلامة أراضيها.
الجانب الروسي أكد دعمه للتغييرات الإيجابية الجارية في سوريا، مشددًا على أهمية إعادة بناء الثقة مع الشعب السوري من خلال تدابير ملموسة تشمل التعويضات وإعادة الإعمار والتعافي، وهذا ربما يشير إلى أن دمشق طالبت موسكو بالاعتذار للسوريين وبتعويضات لقاء ما تسببت به من دمار وضحايا خلال دعمها للدكتاتور الهارب، دون التطرق لمصير بشار الأسد ذاته.
كما تناولت المناقشات آليات العدالة الانتقالية لضمان المساءلة وتحقيق العدالة لضحايا الحرب، التي شاركت روسيا فيها بفعالية فاقت جميع التأثيرات الأجنبية إذ لم يقتصر تدخلها على المجال العسكري فقط بل شمل محاولات لتحقيق مكاسب استراتيجية طويلة الأمد، مثل الحفاظ على قواعدها العسكرية في حميميم وطرطوس.
ويجب وضع الأمور بسياقها، لأن الزيارة جاءت بعد الأنباء حول إلغاء دمشق عقدا مع شركة روسية لإدارة وتشغيل ميناء طرطوس وقِّع في عهد الرئيس المخلوع بشار الأسد 2019، لأنها فشلت بالإيفاء بتعهدات الاتفاق حول تطوير الميناء، وهو ثاني أكبر ميناء بعد اللاذقية.
لذا تعمل روسيا حالياً على تأمين مستقبل قاعدتيها الاستراتيجيتين في طرطوس وحميميم، وهما المنشأتان العسكريتان الوحيدتان لها خارج حدود الاتحاد السوفياتي السابق. وتعتبر هاتان القاعدتان محوراً أساسياً للحفاظ على النفوذ الروسي في الشرق الأوسط وحوض البحر الأبيض المتوسط، فضلاً عن تعزيز حضورها في أفريقيا وخاصة شرق ليبيا.
فسقوط حليف موسكو قد يدفعها إلى إعادة تقييم انتشارها العسكري في المنطقة، مع احتمال تقليص وجودها والتركيز على مواقع أخرى في المنطقة، وإذا نجحت بالحفاظ عليهما بأي ثمن سيحفظ لها ماء وجهها على الأقل، ويحقق مقولة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أن سقوط بشار الأسد ليس “هزيمة” لروسيا.
من جهة أخرى، تواجه الإدارة السورية الجديدة تحديات معقدة في علاقاتها مع القوى الغربية، التي تربط رفع العقوبات بتحقيق تقدم في مسارات سياسية محددة. تتضمن هذه المطالب إشراك الأقليات في الحكم والمشاركة في المؤتمر الوطني العام، بالإضافة إلى دعمها القوات الكردية (قسد) في موقفها المصلب حيال عدم إلقاء السلاح حتى يتم وضع دستور جديد للبلاد.
في هذا السياق، صرحت نائبة المتحدث باسم وزارة الدفاع الأمريكية، سابرينا سينغ، بأن مهمة القوات الأمريكية في سوريا تركز على محاربة تنظيم داعش، وأن على قسد تحديد مستقبلها في ظل المتغيرات السياسية، لكن مسؤول في البنتاغون صرح بانهم ملتزمون بهزيمة تنظيم داعش واستمرار دعم قسد ومكافحة الإرهاب، في حين تشير تقارير إعلامية إلى احتمال تقليص الوجود العسكري الأمريكي في سوريا.
أمام هذه التحديات، يبدو أن الشرع يسعى إلى الاستفادة من الوجود الروسي في سوريا لتحقيق توازن دقيق مع القوى الغربية. فمن خلال تعزيز العلاقات مع موسكو، يمكن لدمشق أن تحصل على موقف أفضل في التفاوض مع الأمريكان الذين يستولون على منابع النفط للخروج من البلاد مقابل إخراج الروس عوضا عن ربط هذا الانسحاب بملفات أخرى، لها أثر مستقبلي على سيادة الدولة وسلامة أراضيها، ويمنحها مساحة أكبر للمناورة في مفاوضاتها مع الأطراف الدولية والإقليمية الأخرى أيضا.
مع ذلك، فإن هذا التوجه يحمل في طياته مخاطر تتعلق بالاعتماد المفرط على طرف دولي واحد، مما قد يؤثر على استقلالية القرار السوري مستقبلاً. لذا، يتعين على دمشق تبني سياسة متوازنة تضمن تحقيق مصالحها الوطنية دون الانحياز الكامل لأي طرف خارجي، مع السعي لبناء علاقات متوازنة مع مختلف القوى الدولية والإقليمية، فلا يخفى على أحد أن التدخلات الأجنبية قسمت البلاد فعلايا إلى مناطق مستقلية تحت الجيش الوطني في الشمال وقسد في الشرق إلى جانب دمشق التي توحدت مع إدلب منذ سقوط النظام في 8 كانون اول 2024م.
داخليًا، ورثت الإدارة الجديدة الدمار بنية تحتية منهكة، حيث تم تدمير نصف المباني خلال فترة الحرب، وقتل مئآت الآلاف ونزوح الملايين من السكان داخليا وخارجيا، كما جرى تدمير التراث الثقافي والاقتصاد، ما يفسر استمرار الأزمة الاقتصادية، فالبلاد تجثو على ركبتيها – كما يقال- فاضطرت حكومة محمد البشير على الاستمرار بسياسة الخصخصة حتى انها تعمل على تحويل الجمعيات الاستهلاكية لشركات مساهمة وسط معاناة السكان من الفقر والتضخم والفساد.
نهاية القول، التحديات السياسية والعسكرية تعيق جهود الإدارة الجديدة في توحيد تراب البلاد واستعادة الاستقرار نتيجة ارتباط قوى عسكرية سورية مع قوى دولية أو إقليمية، حيث تسعى دمشق لتشكيل الجيش وبسط الأمن بهدف تحقيق الاستقرار والبدء بعملية الانتقال السياسي وإعادة الإعمار بعد تأمين الحفاظ على سيادة البلاد واستقلالية قرارها السياسي، وستكون المرحلة المقبلة اختبارًا حقيقيًا لقدرة الإدارة الجديدة.