غياث تفنكجي


بعد أيام من بدء الغزو الروسي على أوكرانيا، تجنّب الغرب المواجهة المباشرة، واختار أسلوب فرض العقوبات، فبدأ ذلك بفرض العقوبات الاقتصاديّة، ثم توسّع ذلك ليشمل محاور أخرى كالثقافة والرياضة.

تضرّرت الرياضة في روسيا كثيرًا من العقوبات المفروضة، فتم نقل نهائي دوري أبطال أوروبا من سان بطرسبرغ إلى باريس، وحُرمت روسيا من استضافة بطولات عديدة، ككأس ديفيز للتنس وجائزة روسيا الكبرى للفورمولا ون، إحدى جولات بطولة العالم، وكأس العالم للكرة الطائرة، كما تمّ حرمان روسيا وبيلاروسيا من المشاركة في دورة الألعاب البارالمبية الشتوية في الصين، وفوق كلّ ذلك جرى استبعاد منتخب روسيا لكرة القدم من تصفيات كأس العالم، إضافة للأندية الروسية في جميع البطولات الرسمية، ومزيد من العقوبات الرياضية الأخرى.

share

تجيب الأحداث الجارية عن كثير من التساؤلات التي شغلت بال شباب الربيع العربي، أسئلة يتناولها الأوكرانيون اليوم، بإمكاننا أن نمنحهم إجاباتها

حدث أمر مشابه قبل ثلاثين عامًا، حينما حُرمت يوغوسلافيا من خوض نهائيات كأس أمم أوروبا 1992، بسبب حروب البلقان، وقتها حلّت الدانمارك بديلة عنها وظفرت باللقب كما هو معروف، وخلال إجراء أوّل بطولة كأس عالم لكرة القدم بعد الحرب العالمية الثانية، تمّ استبعاد اليابان وألمانيا من المشاركة في التصفيات، بسبب خضوعهما لعقوبات من المجتمع الدولي، علمًا أن إيطاليا شاركت في تلك النسخة عام 1950 بالبرازيل، ربّما شفع للإيطاليين إعدامهم لموسوليني بأنفسهم.

كذلك تعرّضت جنوب أفريقيا للإقصاء الرياضي، بعدما انتهجت سياسة الفصل العنصري، حيث كانت تكتفي بلاعبين أصحاب بشرة بيضاء في المشاركات الرياضيّة، فتمّ حرمانها من المشاركة في سبع دورات أولمبية متتالية، بين عامي 1964-1988، كذلك شملت العقوبات على نظام الأبارتايد كرة القدم والكريكيت، والأخيرة هي اللعبة الشعبية الأكبر في البلاد، وتم إلغاء العقوبات مع نهاية نظام الفصل العنصري.

قبل غزو روسيا لأوكرانيا، كان عليها تجربة ترسانتها من الأسلحة في المدن السورية، ارتكبت ما ارتكبته من جرائم ضدّ الإنسانيّة، ساهمت مع نظام بشار الأسد بقصف المدنيين ومشافيهم ومدارسهم ودور عبادتهم، كانت سببًا رئيسيًا في تهجير ملايين منهم قسرًا نحو المجهول أو أبعد من ذلك، لكنّ دماءنا لم تكن بحاجة لإصدار قرار مماثل يمنع منتخب النظام السوري من المشاركات الرياضية، بل اقتصرت المقاطعة على التصرّفات الفرديّة من بعض الرياضيين، كذلك الحال بالنسبة لنظام الفصل العنصري الإسرائيلي، كانت التصرّفات الفردية في الواجهة، دون قرار دولي ملزم.

فيما يخصّ مجازر النظام السوري والقوات الروسية في سوريا، وجدليّة تجنيب الرياضة السورية والروسية الإيقاف الدولي، نادى الكثيرون وقتها بفصل الرياضة عن السياسة، وفي الوقت نفسه زجّ النظامان السوري والروسي بالرياضة في أجندتهما، وفق خطوات كلاسيكية تتبعها الأنظمة الديكتاتورية عادة، فالتقى بشار الأسد بلاعبي المنتخب الكروي عام 2017، وتبادلت الأطراف الابتسامات، وتبيّن لجميع السوريين من يمثّل هذا الفريق.

كذلك أوفدت روسيا إلى قاعدة حميميم العسكرية في سوريا إيلينا إيسينباييفا رفقة بعض من الرياضيين الروس، وحينما نتكلّم عن إيسينباييفا فنحن نحكي عن إحدى أساطير ألعاب القوى في دورات الألعاب الأولمبية، قالت صاحبة الرقم القياسي للقفز بالزانة “نعلم أننا نزور أبطالنا، نزور المدافعين عنا، كانت لدينا الرغبة في أن نزور قواتنا وأن نقول لهم إننا نحبهم وإننا نفخر بهم”، إيسينباييفا نفسها انتُخبت وقتها في لجنة الرياضيين الدوليين التابعة للجنة الأولمبية الدولية، لم تعاقب روسيا على جرائمها في سوريا، بل استضافت كأس العالم 2018،  ولم تُعاقب إيسينباييفا، كذلك الحال بالنسبة للفرق الممثلة للنظام السوري.

share

ستنتهي الحرب عاجلًا أو آجلًا، وبغضّ النظر عن هوية المنتصر إن وُجد، ستبقى تبعات محاولات العزلة الثقافيّة ماثلة

يعيدنا مشهد الديكتاتوريات هذا إلى سبعينيات القرن الماضي، حينما فازت الأرجنتين بحق تنظيم كأس العالم نسخة 1978 لأوّل مرّة في تاريخها، مُنحت الأرجنتين هذا الشرف عام 1966، وأعدّت البلاد العدّة لتنظيم استثنائي، ولكن قبل بداية البطولة بعامين فقط، حدث انقلاب عسكري بقيادة خورخي فيديلا، فزُجّ بعشرات الآلاف  في السجون، وتم نفي وقتل الآلاف من المعارضين ومن يشتبه بمعارضتهم السلطة الحاكمة القمعية بقيادته، زادت سلطاته على ذلك بقتل الرجل المشرف على ملف استضافة المونديال كارلوس عمر أكتيس.

أرادت السلطات الانقلابيّة أن تجعل من المونديال دعاية مجانية لحكمها، فكانت الأرجنتين تعاني من أزمة اقتصاديّة كبرى، ورغم ذلك خصص الجنرالات أكثر من 700 مليون دولار من أجل تنظيم الحدث، وأتى ذلك على حساب الشعب الفقير الذي هدمت الحكومة أحياءه الفقيرة التي لا ترغب أن يراها الضيوف، ونقلت آلافاً منهم للعيش في الصحراء.

 ومن أجل إظهار البلاد الموشّحة بالدماء بحلّة بهيّة بنت الحكومة جداراً عازلاً يخفي آثار المنازل التي هُجّر أهلها، وتم تلوين هذا الجدار بالرسومات المتعددة، فبات اسم هذا الجدار لاحقاً “جدار العار”، وكان شعار البطولة 25 مليون أرجنتيني ينظمون بطولة كأس العالم، ولكن الواقع أثبت أن الشعار الحقيقي “25 مليون أرجنتيني سيدفع تكاليف كأس العالم”، كما نقلت حكومة الجنرالات معسكرات الاعتقال المكتظّة بعشرات الآلاف من الأرجنتينيين إلى مناطق بعيدة نائية، أو إلى سفن لنقل البضائع.

عارضت أغلب دول العالم استضافة الأرجنتين للحدث، ونادت بسحب ملف الترشيح منها ومنحه لدولة أخرى، لكنّ ذلك لم يحدث أيضًا، بل اقتصر على المبادرات الفرديّة من بعض اللاعبين، كيوهان كرويف نجم هولندا، وأبرز نجوم منتخب ألمانيا الغربية الفائز بالنسخة السابقة 1974، منهم جيرد مولر وفرانز بيكنباور وبول برايتنر، ربّما لم يتم استبعاد الأرجنتين من استضافة المونديال بسبب قرب الجنرال فيديلا من الإدارة الأمريكية، وقتها لُقّب خورخي فيديلا بيد هنري كيسينجر اليمنى في أمريكا الجنوبيّة.

سئمنا من الحديث عن العنصريّة في التعاطي مع القضايا نفسها، الكبار هم الجلادون، والضحايا هم الصغار، نحن نحن، وهم سيبقون هم، فلنسلّم بذلك على اختلاف ألواننا، ومدى وقع أصواتنا، وخبرنا أكثر من غيرنا تحويل مآسينا أو حصرها بمحاضرات أخلاقيّة وقانونيّة، وربّما منحنا التاريخ الآن فرصة لإلقاء هذه الخطابات، كوننا غير متأثّرين ولا مؤثّرين بما يحصل في أوكرانيا، حتى الآن على الأقل.

share

لا تملك الدول الغربية الجرأة على مواجهة الشر الروسي عسكريًا، فنظّمت عقوبات اقتصاديّة، وبنت جدران العزلة الثقافيّة، عجزها يشبهنا كثيرًا حينما نكتفي بتغيير صورتنا الشخصية في مواقع التواصل الاجتماعي

أتت العقوبات الرياضية على موسكو ضمن حزمة كبيرة من العقوبات الاقتصاديّة، ستلحق العقوبات الاقتصاديّة بالنظام الروسي الضرر، ولكن نعلم جيّدًا أنّه في بلدان كروسيا أكثر المتضرّرين هم الأفراد، ولن يُسقط الحكومات موت مئات الآلاف جوعًا، ولولا فرض العقوبات ستزداد السلطات الروسية جبروتًا بالطبع، لكنّ ما يحدث من عقوبات اقتصاديّة ورياضيّة تحوّل إلى حرب حضاريّة بشكل عام، والسبب الرئيسي لذلك هو مزيج بين العجز والجُبن الغربي.

أعلنها الغرب مرارًا وتكرارًا، أن لا مواجهة عسكرية مع روسيا، وسيكتفي بفرض العقوبات على موسكو، في وقت تمعن الأخيرة في غزوها لأوكرانيا، تلك البلاد التي عانت من لعنتي التاريخ والجغرافيا، فباتت ساحة لتفريغ شحنات العنصرية المتراكمة بين الطرفين الشرقي والغربي، فلم يحرّك الغرب ساكنًا في حرب روسيا مع جورجيا فيما يخصّ أوسيتيا الجنوبيّة عام 2008، لأن جورجيا تقبع شرقًا، لكنّ أوكرانيا مثّلت الحصن الأخير أمام المارد الروسي، فكان على الغرب التحرّك.

لا تملك الدول الغربية الجرأة على مواجهة الشر الروسي عسكريًا، فنظّمت عقوبات اقتصاديّة، وبنت جدران العزلة الثقافيّة، عجزها يشبهنا كثيرًا حينما نكتفي بتغيير صورتنا الشخصية في مواقع التواصل الاجتماعي، فمقطوعات تشايكوفسكي عندهم قد تصبح كمؤلفات ريتشارد فاغنر عند الإسرائيليين، ومؤلفات دوستويفسكي مُنعت ولو بشكل مؤقت من التدريس في الجامعات، علمًا أن الروس أنفسهم هم أكثر من عانوا من الديكتاتوريات تاريخيًّا، فحاربوها بحريّتهم ودمائهم وما تبقّى من أنفاسهم.

ستنتهي الحرب عاجلًا أو آجلًا، وبغضّ النظر عن هوية المنتصر إن وُجد، ستبقى تبعات محاولات العزلة الثقافيّة ماثلة، سيما وأنها ستساهم بشكل مباشر في إجبار الكثيرين على اتّخاذ طرف دون آخر، فسيجد أحد المعارضين الروس نفسه مجبرًا على معاداة الغرب كونه حارب هويّته، ووضعه بكفّة واحدة مع نظام إجرامي كنظام بوتين، وهو ما يذكّرنا بما فعلته أمريكا في الحرب العالمية الثانية، مع اختلافات إجرائيّة، حينما حبست قرابة 120 ألف أمريكي من أصل ياباني في معسكرات اعتقال عقب واقعة بيرل هاربر.

هنالك فئة مظلومة في أوكرانيا تتعرّض للغزو من مجرم حرب، وثمّة ردود فعل لنصرتها شكلًا، لكنّها تجعلها ذريعة لبناء جدران عزل ثقافيّة مضمونًا، وهي عاجزة كل العجز عن الدفاع عنها، يشير تداول الأيام والسنين إلى أن زوال غمام الحروب سيكفل افتضاح كلّ ذلك، وتجيب الأحداث الجارية عن كثير من التساؤلات التي شغلت بال شباب الربيع العربي، لماذا لم ينصرنا أحد، ولماذا نحن عاجزون، كنا قريبين من الحرّية.. فلماذا لم ننلها؟، أسئلة يتناولها الأوكرانيون اليوم، بإمكاننا أن نمنحهم إجاباتها.

المصدر: الترا صوت