قراءة في ضوء “طبائع الاستبداد” و”الطاغية”
حقبة حكم بشار الأسد في سوريا تمثل نموذجًا مأساويًا للاستبداد السياسي، الذي يتجاوز قمع المعارضة إلى تشويه القيم الاجتماعية والسياسية والثقافية للأمة. من خلال قراءة نقدية لكتابي “طبائع الاستبداد” لعبد الرحمن الكواكبي و”الطاغية” لإمام عبد الفتاح إمام، وبالاعتماد على تقارير حقوق الإنسان والدراسات الحديثة، يمكننا تحليل هذه الحقبة و تحليل شخصية بشار الأسد، الذي يظهر أنه يمثل صورة واضحة للطاغية الذي وصفه الكواكبي وإمام.
بشار الأسد لا يظهر كحاكم بقدر ما يتمثل في صورة الطاغية الذي يعيش على الخوف الذي يزرعه في نفوس شعبه المسجون داخل أضلاع حدود الوطن، فالمستبد يُحيط نفسه بهالة من القوة المطلقة، ويُحكم سيطرته عبر أجهزة قمعية تُطوع الشعب وتُخضعه، كما أشار الكواكبي.
والطاغية كشخصية تحاول أن تصنع شرعيتها من خلال مزيج من القوة الناعمة والخشنة، لذا وجدنا الأسد يبرع في استغلال الخطاب السياسي والإعلامي لتقديم نفسه كحامٍ للأقليات ودرعٍ ضد “الإرهاب”، بينما يُمارس أشكالًا متعددة من القمع ضد كل من يهدد سلطته، هذه الشخصية، كما وصفها إمام، تميل إلى عزل نفسها عن الواقع، محاطة بدائرة من المنتفعين الذين يعززون أوهامه عن الاستقرار والسيطرة.
صيدنايا وتدمر رمزان للاستبداد
سجن صيدنايا، الذي يمثل صورة حية للطاغية الذي يطمح إلى القضاء على أي تهديد محتمل عبر الترهيب والقمع، وصفته منظمة العفو الدولية بـ”المسلخ البشري”، يمثل واحدًا من أكثر الأمثلة بشاعة على الاستبداد في عهد بشار الأسد. في هذا السجن، جرت عمليات إعدام جماعية وتعذيب ممنهج، حيث قدّرت التقارير أن ما بين 5,000 إلى 13,000 شخص قد تم إعدامهم سرًا بين عامي 2011 و2015م.
لحظة سقوط الطاغية توافد أهلهم بالآلاف للبحث عن أولادهم في زنازين الأمل التي حبسوا أنفسهم فيها، في حين أن أبناءهم غادروا محابسهم إلى السماء، كانت زنزانات الاستبداد في صيدنايا أداة لبث الرعب في نفوس السوريين، وهو كما وصفه الكواكبي بـ”الاستبداد الذي يُرهب الشعب ويُخضعه بالصمت والخوف”.
أما سجن تدمر، الذي كان يُعرف قبل اندلاع الثورة السورية كرمز للقمع في عهد حافظ الأسد، فقد استمر إرثه في عهد بشار الأسد، لكن خروج الصحراء عن سيطرة هذا النظام جعله ينقل السجناء من هذا السجن الرهيب الذي فجره تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)عام 2015م، تقارير الشهود والناجين وصفت الانتهاكات المروعة التي كانت تتم فيه، من التعذيب الوحشي إلى الإعدامات الجماعية.
من “طبائع الاستبداد” أن يكون الاستبداد السياسي هو أصل كل فساد، وهذا يصدقه زمن حكم الأسد الخلوع ووالدع حافظ الأسد، عبر الحكم المطلق وقمع الحريات وعمليات الاعتقال التعسفي، التعذيب، والإعدامات خارج نطاق القانون، وكأن الكواكبي يوثق لهذه الحقبة بقوله:”الاستبداد الذي يستعبد الشعوب بالخوف”.
و كان “الطاغية” كمن يُحيط نفسه بهالة من الخوف، ويستخدم أدوات القوة الناعمة والخشنة للسيطرة على المجتمع، حيث اعتمد الأسد على وسائل الإعلام الموجه لتبرير سياساته القمعية وإعطاء أجهزة القمع شرعية بالتعامل بوحشية مع المناهضية لحكمه أو المطالبين بالحرية وذلك عبر وصمهم بصفات تشرعن قتلهم، مثل: إرهاب، تخريب، إخونجي، متطرف، عميل….الخ وذلك لضمان الاستمرار في السلطة بأي ثمن، فوسائل الإعلام المحلية كأداة لتزييف الحقائق وقمع الأصوات المعارضة.
التلاعب بالدين والأخلاق
الاستبداد غالبًا ما يتقاطع مع الدين، حيث يتم توظيفه لتبرير الحكم المطلق، على رأي الكواكبي، ففي الحالة السورية، استُخدم الخطاب الديني بشكل مفرط لتصوير النظام كحامٍ للأقليات وضامن للاستقرار ولتخويف المذاهب الأخرى من “الوهابية والسلفية”، ما يدفع طبقة رجال الدين المقربين من السلطة والمحسوبين ع المذاهب الأخرى تدعم المستبد وهو يمارس أبشع أشكال القمع و التنكيل بمعارضيه، وهي حالة يمكن وضعها بالفعل تحت عنوان “نفاق مفتي السلطان” الذي تبنى خطابا يبرر المجازر ضد المدنيين، خاصة في مناطقة طائفة بعينها.
فالطاغية يسعى دائمًا لتدمير الأخلاق، وتحويل المجتمع إلى كيان خاضع ومتواطئ مع الظلم، كما يقول إمام، وهذا ما يفسر ظاهرة “التكويع”، أي تبدل الولاءات السياسية، بعد سقوط بشار الأسد يوم 8 كانون أول 2024م، انطلاقا من حجم النفاق للطاغية عندما كان على رأس السلطة، مما أدى إلى تآكل الثقة بين السوريين وتعزيز الانقسام الداخلي.
والاستبداد يلازم الجهل، فالطاغية يعادي العلم والمعرفة لأنه يخشى من التنوير الذي يهدد سلطته، ولو ان الكواكبي موجود لأشار إلى هجرة العقول، حيث فرّ الآلاف من العلماء والأكاديميين السوريين إلى الخارج بسبب القمع.
المال كمحرك للاستبداد
الاستبداد يُضعف الاقتصاد ويستنزف الثروات، و في حقبة الأسد، استُنزفت الموارد الوطنية لدعم شبكة الولاءات السياسية، مما أدى إلى تدهور الاقتصاد وزيادة الفقر والبطالة، وترك الناس يتضورن جوعا في سبيل البقاء على كرسي الحكم وراح بشار الأسد يلاحق السوريين ويعاقبهم لتخليصهم الدولار ليجمعه في خزائنه التي باتت خاوية نتيجة اختياره طريقا لامصلحة للسوريين فيه بل مصلحة قاتليهم الإيرانيين وميليشياتهم وحلفائهم في دول الجوار، فلك ان تتصور أن أقل رقم يذكره تقرير دولي يؤكد ان الحرب السورية كلّفت الاقتصاد أكثر من 226 مليار دولار، وهو ما يعادل أربعة أضعاف الناتج المحلي الإجمالي قبل الحرب.
والطاغية يستخدم المال لشراء الولاءات، وظل بشار الأسد يمارس هذه السياسة حتى آخر يوم حين أعلن رفع رواتب الجنود بنسبة 50 بالمئة في محاولة لتثبيتهم على جبهتي حمص وحماة، وهذه السياسة أدت إلى انتشار الفساد بشكل منهجي خلال العقود الماضية، حيث تركزت الثروات في أيدي دائرة ضيقة من المسؤولين الموالين للطاغية.
طريق الخلاص
يرى الكواكبي أن التخلص من الاستبداد يتطلب وعيًا شعبيًا وعدالة اجتماعية. وفي السياق السوري، تظهر الحاجة إلى بناء نظام ديمقراطي قائم على المحاسبة والشفافية، قادر على تجاوز إرث الاستبداد. تقارير حقوق الإنسان تشير إلى أن المصالحة الوطنية وإعادة بناء المؤسسات ستكون ضرورية لتحقيق انتقال سياسي ناجح.
أما إمام في كتابه الطاغية، فيؤكد أن الطاغية ينهار عندما يفقد السيطرة على أدوات القمع، مشيرًا إلى أهمية التحرك الجماعي لاستعادة الحرية، وهذا ما يجب أن نصر عليه في سوريا، ما يتطلب هذا تضافر الجهود الدولية مع الحراك الشعبي لضمان محاسبة المسؤولين عن الجرائم وتحقيق العدالة الانتقالية واسقاط الطغاة الذين يستقلون بأجزاء من البلاد خاصة تلك التي مازال السوريون فيها يتحدثون همسا!
حقبة بشار الأسد، انتهت، ولكن حقبة الحرية دون طغاة لم تبدأ بعد، فعند النظر إلى الوراء من منظور كتاب “طبائع الاستبداد” والطاغية نجد إن تفكيك هذا النظام لا يكمن فقط في إسقاط الحاكم، بل في بناء مؤسسات قوية قادرة على منع عودة الاستبداد. بذلك، يمكن لسوريا أن تتحرر من إرث الطغيان، وتبدأ عهدًا جديدًا من الحرية والعدالة، مستندة إلى تجارب الماضي ودروس الحاضر.