على ضفاف نهر الفرات في قرية “موحسن” في دير الزور شرقي سوريا، وضعت والدةٌ حجراً أمام الباب كي لا يُغلق، حيث يتسلل فتى يافع عائد متأخراً من إحدى سهراته في حفلات الأعراس التي يغني فيها، فيصحو والده على وقع خطاه ضارباً إياه ضرباً شديداً.

طموح على ضفة النهر

يجد هذا الفتى “ذياب مشهور” نفسه يتربى وينشأ في حياة عشائرية ومجتمع وأسرة محافظين، فوالده المتدين لا يسمح له بالسهر والغناء في الأعراس، لكنه كان يُغني العتابا على الربابة بين أصدقائه. حُبّ الفتى لهذا الفن جعله يطلب من والده أن يعلمه أبيات العتابا وطريقة إنشادها، فنهاه ناصحاً إياه بالابتعاد عنها لأنها تجلب الفقر.

يطمح مشهور إلى الغناء وسط تلك البيئة القاسية التي تعتمد على الرعي، وتنظر إلى نهر الفرات بأنه أسّ بقائها، فلولاه لا حياة فيها، فنما متعلقاً به ساعياً إلى ردّ الجميل له.

في دير الزور وُلد مشهور في 15 فبراير/شباط 1946، حيث الحياة قاسية والفقر مدقع، والبيئة بدوية لا يوجد فيها فنانون ومطربون، بل هناك مُعتّبون وقوّالون شعبيون يُنشدون أغانٍ تراثية، حتى ظهر مطرب عراقي هو “حضيري أبو عزيز” ليُغني اللون العراقي، ومع وجود الإذاعة عُرفت أغانيه، فتأثر به “مطرب السجون والمعتقلات”، وقد لقب مشهور بذلك لأنه ظهر في مسلسلات “دريد ونهاد” مسجوناً يُغني للسجناء، كما ردّد هذه العبارة نهاد قلعي عندما قدمه قبل غناء “يا بو رديّن”، فصارت صفة ملازمة له.


صوت الفرات

استقى وتعلّم مشهور من مدرسة الحياة تجارب حياتية يومية صقلت موهبته ونمّتها، فهو أُمّي لم يدخل مدرسة قط، حيث كانت بداياته عام 1952 عندما بدأ يُغنّي في الأعراس في قريته، حتى أُتيح له الالتقاء بالفنان الكفيف “يوسف جاسم” الذي علّمه المقامات والفنون الموسيقية، فنهل منه سماعاً يعتمد على وقع الأنغام والألحان[1]، فكان يلتقطها ويضيف إليها ويطورها بسجية ثقافية أضافت إليه مما تعلمه من خبراتها وتجاربها.

عام 1968 كان مشهور في شمال سوريا وتحديدا في حلب، وذلك كي يسجل أسطوانات فيها مع المطربة يسرى البدوية، حيث يذيع صوته مطرباً ذا مقدرات صوتية، لكنه يقفل عائداً إلى دير الزور، فيؤسس بعد ذلك بعام نادياً للفنون في بلدته مع فرقة موسيقية، حتى يقرر الرحيل إلى دمشق، حيث المجال أوسع ليحقق حلمه في أن يكون مطرباً ينقل الصوت الفراتي القادم من شرق سوريا، إذ إن بقاءه في محافظته سيجعله مُقيداً غير قادر على تنمية موهبته وإيصال هذا الفن خارجها.

في دمشق تجلّى رائد الفن الفراتي مغنياً ومجدداً، ففي المدينة تتسارع الحياة التي تختلف عن قريته الصغيرة البعيدة، حيث يقف أمامها تائهاً يحاول لملمة مخزونه كي يصل به إلى مكان يضع فيه تجربته الفنية والموسيقية.


خبز للخروف

ينتقل مشهور إلى العاصمة السورية عام 1969، ويتقدم لامتحان المطربين الذين يُصنفون في الإذاعة السورية، يقف أمام لجنة من كبار الموسيقيين السوريين مثل نديم درويش وعزيز غنام وعمر النقشبندي، فأثنى جميعهم على أدائه وصوته واعتمدوه مُطرباً في الإذاعة.

كان الموسيقار الشهير عبد الفتاح سكر هو من قدّم مشهور إلى هذه التجارب، وذلك بعدما كان يغني في أحد الملاهي الليلية في دمشق، حيث قضى سنوات من البؤس والشقاء (من 1969 حتى 1972)، يقول مشهور “كنت آكل خبزاً فقط” لا إدام فيه، ويتوجه يومياً إلى صاحب مطعم قريب منه يقول له: أعطني خبزاً من البقايا لديك للخروف، لكن أي خروف؟

بهذه الكلمات يحكي ذياب مشهور عن سنوات العذاب في دمشق، ثلاث سنوات كان طعامه الخبز فقط، يبلله بالماء ويضعه تحت رأسه حتى الصباح كي يصبح طرياً.

يشارك ذياب مشهور في “ملح وسكر”، فيؤدي أغنية “يا بو رديّن” من ألحان عبد الفتاح سكر في السجن

“صحّ النوم”؛ المسلسل السوري الشهير الذي عُرف في الوطن العربي، يُشارك فيه مشهور مُؤدياً أغاني من الفلكلور الفراتي الذي حمله معه إلى دمشق مُرتبطا بصداقة مع دريد لحام، كما يشارك في “ملح وسكر”، فيؤدي أغنية “يا بو رديّن” من ألحان عبد الفتاح سكر، وذلك بعدما كلفه خلدون المالح بأداء أغنية تتشابك مع الأحداث وتكون في السياق الدرامي للعمل الفني.

مجموعة من السجناء، يظهرون في المسلسل، تعبر عن مجتمع مُصغّر يحكي عن حالات متعددة وأشخاص من مناطق مختلفة وخلفيات متشابكة، أحدها ذياب مشهور القادم من مناطق الفرات. اختار ابن الفرات لفظة “رديّن” لأنها تُعبر عن مجتمعه ووسطه، فهي تعني “الكُمّ الواسع”، وهو بالعربية الفصحى “ردن” وهو أصل الكم، فقد كان الرجل والمرأة يتغزلان ببعضهما “يا بو رديّن يا بو ردانة”، وردانة تحريف ردنية، وهو الفرد الفرنسي الطويل الذي كان يوضع على الخصر، ويظهره الرجل متباهياً به.

كما أدى مشهور أغنية “عالمايا” من الفلكلور الفراتي أيضاً، والتي تعني المرأة الجميلة كاملة الأوصاف.

تابع مشهور مشروعه مُتعايشاً مع الفرات الذي استقى منه الأفكار والخواطر، فمن يرقب الفرات في هديره وتواتر موجاته يمتلك ذائقة فنية تُخبأ داخله، حتى يفتح لها طاقة تخرج منها.


بين العراقي والفراتي

ليست “يا بو رديّن” و”عالمايا” أول أغنيتين لمشهور، فقد كانت الأغنية الأولى له “طولي يا ليلة” عام 1972 التي استجلبها من التراث الفراتي وأدخل معاني وكلمات جديدة فيها، كما طوّر جملها اللحنية كي تصبح أسهل وتتناسب مع البيئة المدنية الجديدة، فقد طلب منه الموسيقار عبد الفتاح سكر تأليف أغنية خفيفة تتلاءم مع الواقع فكانت “طولي يا ليلة”، ثم أنجز بعدها “ميلي عليّ ميلي”.

يتشابه اللون الفراتي مع اللون العراقي، فهما مستمدان من فلكلور وبيئة متشابهين، لذا وقف “سفير الأغنية الفراتية” في المنتصف بين هذين اللونين، حيث مزج بينهما وخلطهما، فاللون الفراتي أخفّ وأوضح من حيث الكلام والموسيقى، بعكس العراقي الذي يعتمد على الكلمات القوية والصعبة والمحلية، والحزن أخفّ في الأغنية الفراتية التي تأرشفت ودوّنت معتمدة على الفرح أكثر، أما الأغنية العراقية فيشتدّ الحزن فيها كثيراً حتى يبلغ ذروة نفسية عالية يصاحبها انفعالات ذاتية.

لما أدخل مشهور هذين اللونين في بعضهما نتج لون جديد خاص يحوك الكلام فيه وينسجه ويوشيه، مستمداً إياه من بيئته الفراتية مفردات وألفاظاً مُجدداً فيها، مثل أغنية “ميلي عليّ ميلي” التي يردد فيها مصطلحات كـ”نمنم” و”خانم”، فنمنم تعني الصغيرة اللطيفة والسيدة الكاملة، أما خانم فتدل على السيدة الكبيرة الموقرة، فهي لفظة مدنية لا تتصل ببيئته، فهذا تأثير مدني مزجه مع لونه ساحباً الدلالات إلى أخرى، كما جعل اللحن مطواعاً متناسباً مع الحياة المدنية غير متكلف ببداوته الفلكلورية.

طوّر مشهور أغانيه وسهلها ومشى بدلالاتها لتكون أنسب للسامع، فليس هيّناً على المجتمع السوري أن يدرك الكلمات البدوية الفراتية، ولا سيما أنه أراد السير بهذا اللون نحو الوطن العربي كي يتعرف إليه خصوصا في الخليج حيث أقام بعدما خفتت شهرته. كما حاول نقله إلى الجالية العربية في المهاجر عبر حفلاته، فقد تبنى مشروع الأغنية الفراتية منذ انطلاقته في خمسينيات القرن الماضي، مُعاهداً نفسه ألا يغني غيره، وأن ينشره بين الناس ويعرفهم به على نفقته، فقد صرف ما حققه من أموال إبان شهرته في سبعينيات القرن الماضي على نشر الأغنية الفراتية.


عزلة وغياب

ظهرت فرق عديدة تُعيد توزيع أغاني ذياب مشهور دون إذنه أو الحصول على الحقوق منه، وقد برر بعضهم ذلك بأنهم لم يستطيعوا التواصل معه، لكن تلك الفرق راحت تبدلها وتُغيّر لحنها وتعيد توزيعها الموسيقي وتغير المقامات، فصار هناك نقاش بين الموسيقيين؛ إذ رأى فريق منهم أنه لا يجوز ذلك ولا يحق لهم الاعتداء على المقام الأصلي للأغنية، وفريق رأى أنها محاولة موسيقية جديدة تخرج من القوالب الجامدة بتقديمها بأنماط أخرى.

لقد تعذّر على الفرق التواصل مع مشهور لأنه بعدما اعتزل عام 2000 اتجه نحو السعودية، ليعيش فيها في عزلة لم يكسرها إلا منذ سنوات قليلة، فقد انزوى تاركاً مشروعه بعدما قضى حياته فيه استجابة لصوته الذي بدأ يتعب، واللون الفراتي كي يبقى مُحافظاً على جودته ومجده الذي حققه خوفاً عليه من الاندثار، لكنه لاحقاً أبدى ندمه على اعتزاله الفن، فصار ضائعاً بحسب تعبيره، حتى يجد مطرب الفرات اهتماماً يستحقه يعود به مغنياً “هلا عيني.. هلا بالغايب كان”.

وكانت دموع الفنان السوري “ذياب مشهور” أثناء تكريمه بدمشق 26-11-2019 أبرز ما أثار الاهتمام في احتفالية يوم الثقافة التي أقامتها وزارة الثقافة بحكومة دمشق.

وكان مشهور (75 عاما) الوحيد الذي لم يقدر على اعتلاء المنصة لاستلام الجائزة، فوصلته وهو على كرسيه، حينها لم يتمالك نفسه وأجهش بالبكاء.

ويكرر المشهور الحديث عن حياته المريرة وتعلمه القراءة والكتابة ذاتيا وهمه في نشر اللون الغنائي الفراتي حتى على حساب عدم حصوله على حقوق ملكية المصنفات الغنائية التي أعيد سرقتها وتوزيع ألحانها خلال السنوات الأخيرة.
المصدر : الجزيرة الوثائقية + دجلة نت