علي دالاتي

جاء اندلاع الثورة السورية في وقت شكلت في “صحافة المواطن” رأس حربة الإعلام في عصر انتشار الميديا الاجتماعية على نطاق واسع لتكون كوسيط يتجاوز الإعلام التقليدي من خلالها مشكلة محدودية المعلومات حول أحداث تشمل مناطق واسعة تحتاج لشبكة كبيرة من المراسلين تعجز كبرى المؤسسات عن تأمينها، وهذا ما عبر عن الناشط السوري البارز هادي العبد الله بقوله: إن ” قلة قليلة من الدارسين إعلام بالجامعات ظلوا بالميدان ونقلوا الخبر…وإن المواطنين الصحفيين صاروا أمام عدد كبير من الأحداث بسوريا تحتاج كادر كبير جدا ليحسن تغطيتها فشرعوا بممارسة الإعلام بمعدات بسيطة وتعلموا من أخطائهم حتى انتقلوا للاحتراف”.

التحول للنشاط الإعلامي

ولم يخطر ببال هادي العبد الله، خريج كلية التمريض، أن يصبح إعلاميا، لكنه أرسل رسالة نصية لقناة تلفزيونية بعد أول مظاهرة شارك بها بمدينة حمص يوم 25 آذار2011 إثر إطلاق قوات الأمن والشبيحة الرصاص على المتظاهرين ليسقط بعضهم شهداء وجرحى.
وظهور هذه الرسالة النصية من الهاتف المحمول على الشاشة عبر شريط الرسائل تفيد بخروج مظاهرة في ساحة الساعة بحمص نادت بالحرية وتعرضت لقمع، كانت التجربة الأولى لظهور أهم العاملين في “صحافة المواطن” وبداية التفكير بتوصيل الأخبار للتلفزيون، فيقول هادي : “من هون بدأت حكايتي مع الإعلام”.
فهؤلاء المواطنون الصحفيون، الذين أبلوا بلاء حسنا، بمعدات وخبرات بسيطة واجهوا ماكينة إعلامية لمنظومة النظام وداعميه الروس والإيرانيين والإعلام الموالي لحزب الله اللبناني واثبتوا جدارتهم، لكنهم كـ “إعلام الثورة ” قدموا تضحيات كثير وكبيرة لم تقدم في أي مكان آخر.
في الحقيقة إن هذه التضحيات خلال فترة اندلاع ثورات الربيع العربي عملت على تأطير “صحافة المواطن” وجعلتها أكثر مهنية، فانخراط الناشط أحمد المسالمة بالعمل الصحفي دون تفكير فقط شرع بتصوير المظاهرات في ساحة المسجد العمري في “درعا البلد” مع انطلاقة الثورة بكاميرا خاصة يستعملها للمناسبات العائلية، وهو يظن في البداية أنه يأخذ اللقطات والمشاهد لتكون مجرد ذكريات شخصية إلى أن أصبح عونا لوسائل الإعلام التقليدي.

ويقول المسالمة: ” لم توقع أن يطول الأمر أكثر من أسبوعين إلى شهر على أبعد تقدير” لكنه (..) استمر بتصوير الأحداث المتعاقبة ولم يفكر يوما أن تزيد فترة الثورة عن شهر أو شهرين، فنقل ما يحصل عبر آلة التصوير وبث مقاطع الفيديو عبر الإعلام المرئي ابتداء من تصوير الاعتصامات والمظاهرات وقمع قوات النظام للمظاهرات وإطلاقها النار واستعمال السلاح بشكل مفرط إلى تغطية الاقتحامات والمعارك وحتى تصوير مواكب التشييع ومراسم دفن الشهداء، وأهمها نقل عملية اقتحام المسجد العمري في 23 آذار 2011م.

في 22 آذار مارس 2011 أجرى المسالمة، مكالمة هاتفية باسم “أبو النور” مع إحدى الفضائيات ووثق الكثير من الأحداث ونقل بالصوت والصورة ممارسات نظام الأسد للعالم ليعرف مدى اجرامه ودمويته حتى يلجأ لقصف المدن بالأسلحة الثقيلة والطيران وأيضا لإبراز معاناة السوريين، فصور مقاطع صغيرة للمظاهرات ثم تكرر ظهوره على القنوات التلفزيونية.

وتحدى صحفيو الاعلام البديل التعتيم الإعلامي من قبل المؤسسات الرسمية التي تجاهلت الاحتجاجات في بدايتها ثم كذبت الأنباء حولها قبل أن تزور حقيقتها، ففي حين أعلنت خروج الناس لشكر ربهم على نعمة المطر بدمشق، جعلت المظاهرات المناهضة لبشار الأسد مسيرات مؤيدة، كما يقول ميلاد شهابي، الذي اقتحم مجال الإعلام لكشف حقيقة قمع النظام للمظاهرات السلمية في أحياء حلب وأحيانا عرضها على وسائل إعلامه على أنها مسيرات مؤيدة له، ما جعله يدرك أن وسائل إعلام النظام “تنقل الواقع على الأرض بشكل مختلف” فعزم على خوض مغامرة التصوير عبر هاتفه الجوال لنقل حقيقة ما يجري رغم الثمن الباهظ الذي يدفعه من يحوي هاتف مقطعا لمظاهرة.

الإعلام الحر يواجه الحركات المتطرفة

وبعد انحسار سلطة قوات النظام ظهر محاولات تمدد تنظيم “الدولة الإسلامية” (داعش) فأطلق ميلاد مع زملائه حملة نهاية 2013 لفضح انتهاكات التنظيم منها حادثة إعدام الطفل محمد قطاع في حي “الشعار” شرقي المدينة.

وكان الشهابي أحد الأشخاص الذين خطفهم التنظيم لفترة من الزمن قبل أن يهرب من السجن.
ولأن تدفق المعلومات بغزارة نحو شبكة الانترنت عبر مواقع التواصل الاجتماعي التي يستخدمها أصحاب “صحافة المواطن” بجيلها الثالث تزعج الأنظمة الدكتاتورية عملوا على اسكات صوتها بشتى الوسائل أولها قطع الانترنت وحجب المواقع لكن أجهزة الانترنت الفضائي أفشل هذه المحاولات، فكان استهداف العاملين بها هو الوسيلة الأنجع، وتبدأ حسب الناشط عبد الرحمن طيفور من أدرج اسم الصحفيين العاملين في مجال الاعلام المناهض لنظام الأسد على قوائم المطلوبين ليصار لاعتقالهم أو قتلهم وقد نجا –طيفور-عام 2015 من غارة جوية استهدفت مقر نشاطه في “غوطة دمشق”حيث عمل كمدير شبكة “مراسلي ريف دمشق”

وحمل الكاميرا مطلع نيسان أبريل2011م إثر ارتكاب قوات النظام المجزرة الأولى في مدينة دوما لتوثيق تشييع الضحايا، وبعدها أصبح الأمر نوع من الواجب والالتزام بالقضية مع الحلم بتوثيق لحظة انتصار الثورة وسقوط النظام ثم محاكمة بشار الأسد قبل أن يعود لحياته الطبيعية.

ويرى مهند اليوسف من مركز الحسكة الإعلامي إن تجربته كانت عشوائية ما مكّن قوات النظام من اعتقاله رغم شغفه بمختلف تقنيات الاتصال والتواصل عبر الإنترنت، حيث عمله ضمن مجموعة على السكايب اسمها “الإعلام السوري الحر” للتحقق من الأخبار قبل إرسالها للقنوات المشهورة (الجزيرة والبي بي سي)، لكن حادثة الاعتقال جعلته يغير اسلوبه ونقل نشاطه إلى السوشال ميديا وكروبات الفيسبوك، حتى طلبت منه صحف أجنبية إذن نشر فيديوهات لمجزرة البراميل جنوب القامشلي.

ومع عمل وسائل الاعلام التقليدي على توظيف مواقع التواصل الاجتماعي ومحاولتها الاستفادة من المواطن الصحفي، الذي بدوره بدأ يحسن مستوى الأداء واستخدام التقنيات مستفيدا من موقعه في مكان وقوع الحدث، فبعضهم دخل هذا المجال “صدفة” كما يقول يمان الخطيب الذي تحو عام 2012 م من متظاهر إلى إعلامي بعد اندلاع المعارك، فشعر أنه “يستطيع تأدية هذا الدور لخدمة الثورة فشارك بتأسيس مركز حلب الإعلامي واتبع دورات تدريبية لاكتساب الخبرة الكافية”، يمكن عبر التدريب جعل “المواطن الصحفي” يلتزم بالحياد والموضوعية واستعمال الميديا بمواثيقها الأخلاقية.
ولم يتوقع الخطيب أن يصل إلى مرحلة العمل في كتابة الأخبار ومراسل لصالح قنوات تلفزيونية محلية ثم عربية وصولا لكبرى المواقع الإعلامية العالمية، حتى عمل مؤخرا بصناعة الأفلام التلفزيونية وفاز بالعديد من الجوائز، وهذا يعني أنه أخذ بعين الاعتبار التدقيق على قواعد العمل الصحفي وأخلاقياته.

الثمن كان باهضا

فخلاصة ما عايشه العاملون في “صحافة المواطن” خلال سنوات الثورة السورية العشر، يختزله محمد حاج قدور عضو تنسيقية بنش، الذي دخل هذا المجال عام 2011 بقوله: “معظم الإعلاميين الأكاديميين بسبب خوفهم من النظام لم يشاركوا بتغطية المظاهرات فنحن صرنا نصور بالهواتف المحمولة ونحاول ننشر أو نبعث لأشخاص لهم علاقة بالإعلام موجودين خارج سوريا لمساعدتنا بالنشر وإرسال صور وفيديوهات المظاهرات لوسائل للإعلام…وظهورها على الشاشات يفرحهم”.

لكن الأثمان كانت باهظة، فحين اقتحم عناصر الأمن بنش قرب إدلب لأول مرة ببداية الثورة كانوا يبحثون عن الإعلاميين أولا، وقتل يومها حذيفة الخطيب أحد العاملين بصحافة “المواطن” ضمن المدينة، وتحدث جميع من استمزجنا آراءهم عن تعرضهم للملاحقة والاستهداف والإصابة أو النجاة من قصف لقوات النظام.
وجميعهم أيضا توقعوا مثل “قدور، خريج “أنظمة المعلومات والاقتصاد”، سقوط النظام خلال شهر أو شهرين مثل تونس أو مصر وأنهم سيعودن للعمل بمجال دراستهم لكن الأمر تطور ومع عدم وجود إعلاميين أكاديميين (أو قلة عددهم مقارنة بحجم الحدث)أجبروا على دخول مجال الإعلام.