بعد ثلاثة أشهر من سقوط نظام بشار الأسد، تشهد سوريا موجة غير مسبوقة من العنف على الساحل الغربي للبلاد، أشعلت شرارتها هجمات لمسلحين علويين موالين لنظام بشار الأسد وبدعم من مجموعات تدعمها إيران هذه المنطقة، التي كانت تاريخياً مناطق انتشار الأقلية العلوية وبعيدة نسبيا عن أثار الحرب على مدى عقد كامل، أصبحت اليوم في قلب صراع معقد تتداخل فيه الذكريات التاريخية، والأحقاد الطائفية، والمصالح الجيوسياسية بشكل مأساوي.
تشير الإحصاءات الأولية إلى مقتل أكثر من 1000 شخص، معظمهم من المدنيين، وفقاً للمرصد السوري لحقوق الإنسان، مقابل 230 قتيلا من الأمن السوري. وقد ارتُكبت جرائم بحق مدنيين كرد فعل على كمائن استهدفت قوات السلطة الجديدة، مما يعكس ديناميكية انتقامية معقدة تغذيها جراح تاريخية عميقة، أشار لها الرئيس الجديد في خطابه الأخير، ولا تزال أحداث القمع الدموي التي ارتكبها نظام الأسد، خاصة مجازر الكيماوي وما حصل منذ 2011 ومجزرة حماة عام 1982، جرحاً مفتوحاً. واليوم، يلوح شبح انتقام دموي في الأفق إذا لم يعمل السوريون بجد لتجنب هذا السيناريو.
الأزمة الحالية لا تقتصر على صراع داخلي فقط، بل تأتي ضمن سياق إقليمي حيث يسعى العديد من الفاعلين إلى إعادة رسم نفوذهم. فإيران، التي تلقت ضربة قوية بسقوط نظام الأسد، تحاول الحفاظ على وجودها في سوريا من خلال دعم وكلاء محليين والتحالف مع مجموعات كحزب الله وبعض الميليشيات العراقية. أما روسيا، ورغم تبنيها موقفاً حذراً، فإنها تواصل الحفاظ على مصالحها الاستراتيجية عبر قواعدها العسكرية، التي وعدت بعض المسلحين بجبال الساحل بالدعم في حال سيطروا على اللاذقية وطرطوس. وبالنسبة لتركيا، فهي تراقب بقلق التطورات قرب حدودها، متأرجحة بين الحذر ودعم السلطة الجديدة، حيث صرح حقان فيدان من عمان حول تطورات اللاذقية أن السياسة التي تنتهجها الحكومة السورية منذ أسابيع دون الانجرار إلى أي استفزاز يتم محاولة إخراجها عن مسارها عبر استفزاز متعمد.
سلطة انتقالية هشة ودولة غائبة
يحاول الرئيس المؤقت، أحمد الشرع، احتواء الأزمة. وفي خطاب دعا إلى الوحدة الوطنية وأعلن عن تشكيل لجنة تحقيق لتسليط الضوء على أعمال العنف الأخيرة. ومع ذلك، فإن إمكانيات الدولة محدودة؛ فالخزائن فارغة، والبنى التحتية مدمرة، والجيش الجديد لم ينظم فعليا رغم إعلان وزارة الدفاع دمج الفصائل، والعقوبات الدولية تثقل كاهل الاقتصاد. كما أن التحالفات الخارجية هشة، والقوى الإقليمية تترقب أي فرصة للتأثير على مستقبل سوريا.
في المقابل، الاستنفار الشعبي سيحصد نتائجه الشرع لدعم شرعيته رغم أن السوريون لم يختاروه فعليا كما لم يختار الأكراد مظلوم عبدي أيضا إنما أرادت القوى الدولية الفاعلة إسناد قيادة الفترة الانتقالية بعد الأسد لهما نظرا لقواتهما المنظمة مقارنة بالفصائل الأخرى، لكن وسط هذا التجييش تلوح في الأفق نزعة نحو الانتقام الطائفي، فعمليات القتل خارج القانون والانتهاكات الأخيرة تغذي المخاوف وتعزز حالة عدم الثقة بين مختلف المكونات السورية. وسيتعين على السلطة الانتقالية الالتزام بمسار حقيقي للعدالة الانتقالية، يعترف بالجرائم الماضية ويؤسس لعملية مصالحة وطنية. وإلا، فإن البلاد ستغرق في دوامة لا تنتهي من العنف ربما تنتقل بسهولة إلى الجزيرة السورية والجنوب أيضا، نظرا إلى أن جزء من قوات الدعم للأمن العام وصلت من دير الزور ودرعا حلب.
سوريا تحت الضغط الخارجي
تكشف التوترات الحالية عن عمق الانقسامات في سوريا ما بعد الأسد، وتبرز الحاجة إلى سياسة شاملة قادرة على توحيد مكونات المجتمع حول مشروع وطني جامع يجب أن تطرحه دمشق تكون أولى خطواته المحاسبة والحكومة الانتقالية الشاملة، لكن الطريق مليء بالعقبات الأمنية، والاقتصادية، والسياسية.
وربما ستضطر الأسرة الدولية، التي التزمت حتى الآن الحذر، إلى الاختيار قريباً – على أساس تصرفات دمشق- بين التدخل المباشر أو المخاطرة بترك سوريا تنزلق مجدداً إلى الفوضى، لكن حديث رويترز عن تصريحات لدبلوماسيين أن واشنطن وموسكو تطلبان من مجلس الأمن الدولي عقد اجتماع مغلق الاثنين بشأن تصاعد العنف في سوريا، يرجح المسار الأول.
ومع الضغوط الدولية والظروف الحالية التي تمر بها سوريا تضعها أمام مفترق طرق خطير فالموجة الشعبية باتجاه هجوم المسلحين الموالين للأسد على الساحل السوري، والتي ظهرت نتيجة الخوف المتزايد من خطر التقسيم، يجب أن تُستغل بشكل استراتيجي لبناء رأي عام سوري موحد، فهذا الموقف الشعبي، رغم تنوعه واختلاف مشاعره حول الحكومة الانتقالية، يعكس إدراكاً مشتركاً بين السوريين جميعاً بأهمية الحفاظ على وحدة الوطن في وجه التحديات الداخلية والخارجية، لكن هذا الخوف، وإن كان مبرراً يجب توجيهه بشكل صحيح فهو يُعد فرصة نادرة لتوجيه الجهود نحو تكثيف المقاومة ضد الأطماع الإسرائيلية، التي تواصل توسعها في الجنوب السوري، وكذلك لمواجهة مشروع التقسيم الطائفي الذي تسعى بعض القوى الإقليمية، وعلى رأسها إسرائيل، إلى فرضه على البلاد.
من جهة أخرى، إن موقف دول الجوار السوري، كما ظهر في اجتماع عمان، يعكس تحولاً ملحوظاً نحو دعم سوريا في مرحلة ما بعد بشار الأسد. هذا الموقف يمكن أن يشكل أساساً قوياً لتعزيز موقف سوريا في مواجهة الضغوط الخارجية، خصوصاً من إسرائيل. ولكن، لكي نتمكن من مواجهة هذه التحديات بفعالية، يتعين على القيادة السورية أن تتبنى سياسة شاملة تقوم على تعزيز المشاركة الوطنية، وتضمين جميع مكونات الشعب السوري في عملية بناء المستقبل من خلال انخراط الجميع في جهاز الشرطة والأمن والجيش، فالطريق إلى سوريا موحدة ومستقرة يمر عبر تعزيز مفاهيم المواطنة والتعايش، بعيداً عن التقسيمات الطائفية والإثنية.
بناءً على ذلك، يجب على القوى السياسية السورية والرئيس الشرع والحكومة بدمشق أن ترفع صوتها في مواجهة العدوان الإسرائيلي وتطوير آليات فعالة للضغط على المجتمع الدولي لمساندتها ضد تصرفات تل أبيب وانتهاكاتها في الجنوب، كما يجب العمل الجاد على صياغة استراتيجية وطنية، تضمن وحدة الأرض والشعب، وتستفيد من دعم دول الجوار للتصدي لأي مخططات تهدف إلى تقسيم سوريا وإضعاف موقفها الإقليمي والدولي.