عبد الناصر العايد
توحي عناوين الأخبار التي تتناول مواضيع ذات صلة بالقبائل في سوريا، بوجود سياسي مستقل، أو “عشائرية سياسية” ما. وبسبب غياب محكّات فعلية لهذه الفرضيات، أو تمحيص بحثي رزين، يتم التعامل مع مسألة كون القبيلة لاعباً سياسياً، كبديهية غير محتاجة إلى برهان. وهنا سنحاول في هذه العجالة أن نلقي الضوء على هذه القضية من خلال معاينة حالة قبيلة “البقارة”، التي يحضر اسمها في غالبية الأحداث السياسية السورية المرتبطة بموضوعنا.
تعدّ قبيلة “البقارة” من القبائل العربية الفتيّة، إذ لم يُسجل حضور ملموس لها سوى مع بدايات القرن العشرين، حين أعلن أحد زعمائها في دير الزور، وهو فاضل العبود، قيام دويلة هناك عقب انسحاب القوات العثمانية العام 1918، وتلا ذلك نوع من التمدد في مناطق الجزيرة السورية تخللته صدامات مع قبائل أخرى مثل قبيلة شمر والقبائل الكرديّة. وتُرجع القبيلة نسبها إلى محمد السائح المدفون في مدينة دير الزور، والمتحدر من سلالة الإمام محمد الباقر، خامس الأئمة عند الشيعة. لكن القبيلة تُدين بالمذهب السنّي، مع حضور صوفي راسخ في معتقداتها عن نفسها وفي معاملاتها الدينية.
وقد انخرط أبناء القبيلة في مختلف الأنشطة العامة في منطقة الجزيرة السورية، طوال القرن الماضي، ويتحدر منها سياسيون ومثقفون ورجال دولة، مثل عبد السلام العجيلي وياسين الحافظ ومحمد العايش وغيرهم. ويزعم نشطاء عشائريون منها، أن عدد المنتمين للقبيلة في سوريا يتجاوز المليون وثلاثمئة شخص في سوريا، ونحو ثلاثمئة ألف في العراق، وبضع عشرات من الآلاف في تركيا.
مع نهايات القرن العشرين، بدأ نواف البشير، الذي ورث زعامة القبيلة عن والده، العمل على تحويل القبيلة إلى كيان سياسي، وتدرج في مواقفه من السلطة كمشارك في أحد أحزاب الجبهة الموالية لـ”البعث”، ثم كشخصية مستقلة، ثم انخرط في العمل المعارض من خلال مشاركته في إعلان دمشق.
شهدت المراحل الأولى من عمله نجاحاً ملحوظاً، وبرز اسمه في الساحة السياسية السورية، مع “تكهنات” بحيازته دعماً واسعاً من قبيلته وقبائل أخرى. لكن مع تفجر الثورة السورية، تبين أن تلك التكهنات لم تكن واقعية، فلا البشير أفصح عن موهبة سياسية، ولا القبيلة بدت منظمة سياسياً وذات صوت موحد. فابتعد البشير عن القبيلة التي لم تدعمه، تدريجياً، وصولاً إلى إعلان انفصاله عن غالبيتها العظمى التي انخرطت في تيار الثورة، وإعلان عودته للنظام، ثم تشكيل قوة عسكرية صغيرة تعمل في دير الزور إلى جانب الحرس الجمهوري والمليشيات الإيرانية، في محاولة لإثبات ولائه للنظام تبدأ من الصفر عملياً.
لكن فشل هذا المشروع العشائري الذي أطلق عليه البشير اسم “حزب المستقبل”، لم يعنِ في حال من الأحوال عدم تسيس أعداد هائلة من القبيلة، لكن بتوزع يصل إلى حدّ التناقض الصارخ. فمن جهة لدينا “لواء الباقر”، المؤلف من أبناء القبيلة في حلب، المدعوم إيرانياً، والذاهب في خط التشيع الديني والسياسي. ومن جهة أخرى، لدينا مجلس قبيلة “البقارة” التابع لـ”هيئة تحرير الشام” في إدلب، الذي يدعمه الجولاني بقوة إلى درجة إيفاد رئيس حكومة الإنقاذ التابعة له لحضور جلساته.
وثمة فصائل مسلحة من أبناء القبيلة تدعمها تركيا، مثل “جيش أحرار الشرقية” و”جيش الشرقية” اللذين يشكلان رأس حربة “الجيش الوطني”، فيما تقف على الضفة الأخرى عشرات الآلاف من مقاتلي القبيلة في صفوف “قوات سوريا الديموقراطية” (قسد)، التي تعدّ القبيلة حليفها الأبرز في الجزيرة السورية، ويحظى الشيخ المقيم هناك حاكم البشير بزعامة “مجلس قبائل شمال شرقي سوريا” التابع لـ”قسد”. وهنا وهناك، يتناثر أبناء القبيلة على أطراف الصراع في شكل مجموعات صغيرة، مثل القوة الأمنية الموالية للروس التي يقودها عضو مجلس الشعب مدلول البشار، والقوة التي يديرها نواف البشير. بالإضافة إلى حالات عائلية أو فردية بارزة، مثل الأخوة قاطرجي المهيمنين على جانب كبير من اقتصاديات النظام، وصولاً إلى اللواء الطيار إبراهيم الشاهر رئيس أركان القوى الجوية. وفي الجهة الأخرى نجد عامر البشير عضو الائتلاف ونائب رئيس “مجلس العشائر السورية”، ورياض حجاب رئيس الوزراء المنشق.
لا أبحاث علمية رزينة فحصت حالة قبيلة البقارة هذه، بمنهجية علمية، لكن دراسة حديثة صادرة عن مركز روبرت شومان في معهد الجامعة الأوروبية بفلورنسا، بعنوان “العشائر والسلطة في مدينة حلب”، قاربت هذه المسألة لجهة حالة لواء الباقر وعلاقته بالسلطة والمجتمع، وكشفت جانباً من معادلات القوة التي تحكم الظاهرة القبلية بالسياسة في سوريا اليوم. وتبين الدراسة أن الاستقطاب يقوم على عنصر الفائدة التي تجنيها القبيلة بالمعنى المادي والمباشر من علاقتها بالسلطة، والتي بدورها تحتاج القبَليين في حيز محدد هو قوتها القتالية. وتكاد هذه الحالة تنسحب على كافة مناطق النفوذ الأخرى بدرجات متفاوتة، لكن بشكل عام نستطيع أن نجد ابن القبيلة حاملاً سلاحه، وسلاحه فقط، بينما توجد سلطة أو جهة سياسية تمنحه المال والشرعية لحمل هذا السلاح، وهو ينقل السلاح من كتف إلى كتف بسهولة إذا ما تغيرت الظروف العامة أو تراجع الدعم، بغض النظر عن الموقف السياسي.
ولا يتناقض هذا الاستنتاج مع تمتع بعض النخب بصفة سياسية، إذ غالباً ما يقتصر ذلك على الإطار التشريفي، أو إشهار المكانة الذي يسهل المهمة المنوطة بهذه الشخصيات، وهي السيطرة على المجاميع العشائرية وإدارتها بما يخدم مصالح الطرف المهيمن. وبمعنى آخر، لا تتمتع القبيلة بصفة الكيان السياسي السيد على نفسه، بل إن “سياسيوتها” تابعة بالضرورة لجهة أو فاعل آخر.
السياسة تحتاج إلى النخب، والنخب المتحدرة من أصول قبلية تتحاشى الانخراط في أنشطة جماعاتها ذات الطابع الشعبوي، وتفضل بدلاً من ذلك اكتساب عضوية البيئات الحداثية والحضرية التي تحقق مصالحها وتمنحها ميزات أفضل. وبأثر من هذا الإحجام، ما زالت مشاريع العشائرية السياسية إمكانية غير قابلة للتحقق.
قبل نحو عقد من الزمان، كان يمكن الاعتقاد بأن القبائل ستلعب دوراً سياسياً مماثلاً لدور الأحزاب السياسيّة إذا ما سقط النظام القمعي في سوريا. لكن حقل العراق المجاور يخبرنا بأن القبائل، رغم حضورها الاجتماعي الطاغي، لم تستطع أن تحقق ذاتها سياسياً، رغم زوال كافة القيود التي كان يُعتقد بأنها تحول دون تسييسها. بل إنها، حتى على صعيد العملية الانتخابية، لم تستطع أن تبرز زعماءها أو قادتها، ويكاد حضورها لا يُلحظ بين الديناميتين السائدتين وهما الصراع الديني المذهبي، والآخر العرقي الإثني. وهو ما نشاهده باكراً في الحقل السوري أيضاً، في حالة قبيلة “البقارة” الممزقة بين انتمائها المذهبي، ونسبها الذي يقودها إلى آل البيت والمحور الشيعي، وبين عدائها للأكراد على أساس قومي عربي، من جهة، وتحالفها معهم من جهة أخرى بوصفها شريكاً عربياً في شرق الفرات.