ورغم أن إسرائيل استهدفت مرارًا مخازن أسلحة ومنشآت على الأراضي السورية تُستخدم لتزويد حزب الله بالسلاح، إلا أن هذه الاستراتيجية لم تتغير، فالطريق السريع بين إيران ولبنان يمر عبر سوريا، ويظل هذا الطريق جزءًا من الخريطة الإقليمية التي تشكل مسرحاً للصراع بين إسرائيل وإيران.
في الوقت الذي تشهد فيه المنطقة توترات متصاعدة، يُلاحظ غياب ملحوظ لصوت الرئيس السوري بشار الأسد، خاصة مع تزايد وتيرة الغارات داخل سوريا والتصعيد العسكري بين إسرائيل وحزب الله في لبنان، إضافة للتوترات المستمرة بين إسرائيل وإيران، يمكن أن يُعزى هذا الصمت إلى عدة عوامل داخلية وخارجية، ترتبط بالتوازنات التي يحاول الأسد الحفاظ عليها في ظل ضغوط متعددة.
فمنذ بداية الصراع السوري عام 2011، وجدت دمشق نفسها في معادلة معقدة للغاية، تمكن الأسد من الاحتفاظ بسلطته بعد فقدان أجزاء كبيرة من الأراضي السورية وصلت إلى قرابة 70 بالمئة، ويعود ذلك بالأساس إلى الدعم القوي من روسيا وإيران وميليشيات حزب الله اللبناني، لعبت إيران دوراً محورياً في إعادة توازن القوى لصالح النظام السوري، إلا أن هذا الدعم له ثمن، اليوم، يُعد الوجود الإيراني في سوريا عبئًا سياسيًا على الأسد في ظل الضغوط المتزايدة من إسرائيل، التي تسعى إلى تقليص نفوذ طهران في المنطقة.
السؤال الرئيسي اليوم هو مدى استعداد الأسد للتخلي عن التحالف مع إيران إذا اقتضت الظروف ذلك؟ في ظل الضغوط الدولية والإقليمية، قد يجد الأسد نفسه مضطرًا في نهاية المطاف للابتعاد تدريجياً عن طهران إذا أراد تجنب مواجهة مباشرة مع إسرائيل أو السعي إلى تحقيق توافق إقليمي أكبر، وهي خطوة محفوفة بالمخاطر بالنسبة لدمشق، خاصة وأن إيران لا تزال لاعبًا أساسيًا في استقرار النظام السوري.
تشير التحليلات إلى أن الأسد يسعى للحفاظ على هذا التحالف الاستراتيجي مع إيران، ولكن من دون تصعيد الموقف مع إسرائيل، فالضربات الجوية الإسرائيلية التي استهدفت مواقع إيرانية في سوريا لم تلقَ ردوداً قوية من دمشق، مما يعكس سياسة الأسد المتحفظة، يبدو أن الأسد يدرك أن الدخول في مواجهة مفتوحة مع إسرائيل قد يعرض نظامه للخطر مجددًا، خاصة وأن الجيش قد استنزف خلال سنوات قمع الثورة.
يخشى الأسد من تقليص نفوذه إذا اضطر إلى اتخاذ خطوات أكثر جذرية ضد إيران وحزب الله، لأن تدخلات حزب الله في سوريا حاسمة في بقاء النظام، إلا أن تحالفاته مع إيران وحزب الله تجعله في موقف محرج اليوم، من جهة، لا يمكنه تجاهل الدور الإيراني الكبير في دعم نظامه، ومن جهة أخرى، يدرك أن استمراره في الاعتماد على هذا التحالف قد يضعه في مواجهة مع دول عربية تسعى للتقارب مع إسرائيل مثل السعودية والإمارات ما يعيق إعادة الاندماج في العالم العربي.
دور الروس في سوريا
منذ بداية التدخل العسكري الروسي عام 2015 لحماية معاقل الأسد في الساحل من السقوط بيد فصائل الثورة السورية، أصبحت موسكو لاعبًا رئيسيًا في تحديد التوازنات داخل سوريا، وقد عملت روسيا على ضبط النفوذ الإيراني في البلاد، ولعبت دور الوسيط بين النظام السوري وإسرائيل، مما أدى إلى قلة الاستفزازات المباشرة من دمشق تجاه إسرائيل، ولا ننسى أنها مهندسة مناطق خفض التصعيد في الشمال السوري بالاتفاق مع تركيا، وباتت هي المشرف على الضربات الجوية في الشمال والبادية السورية وحتى المنفذ الحقيقي لها خشية تهديد المناطق الفاصلة مع أطراف الاتفاقات الأخرى جنوب البلاد وشمالها.
إذن يرتبط صمت الأسد بخوفه من انزلاق جديد إلى حرب مباشرة قد تفقده المزيد من الأراضي أو الدعم، فقوات النظام السوري اليوم منهكة وتعتمد إلى حد كبير على الحلفاء الخارجيين مثل إيران وروسيا، ومع انتشار قوات الاحتلال الإسرائيلية في الجنوب السوري من جهة الجولان المحتل، يبدو أن الأسد يختار الالتزام بالصمت لتجنب أي تصعيد إضافي، وإسرائيل من طرفها لا تريد فتح جبهة ثالثة أوسع من سابقاتها وضد دولة لا ضد حركات أو تنظيمات عسكرية فتكفلت روسيا بمحاولة ضبط الميليشيات حتى لا تتسبب بفتح جبهة الجولان كما حصل بجنوب لبنان.
إعادة رسم خريطة الشرق الأدنى
لا شك أن إسرائيل تسعى إلى ابعاد التهديدات القادمة من الفصائل المسلحة، سواء في جنوب لبنان أو في قطاع غزة، لكن الحديث عن “إعادة رسم الخريطة الإقليمية” يبدو مبالغًا فيه، فتل أبيب، وفقًا للمحللين، لا تستهدف إعادة تقسيم المنطقة بقدر ما تسعى إلى تحجيم التهديدات المباشرة التي قد تواجهها، وربما لا تستطيع استئصالها كما يحلم بنيامين نتنياهو.
ولأن إيران الداعم الرئيسي لهذه الحركات والأحزاب التي تساعد طهران على خوض حرب غير مباشرة مع الغرب من خلال استهداف قاعدتها العسكرية الرئيسية المتقدمة في الشرق الأوسط، يظل الهدف الأساسي لإسرائيل هو تقليل نفوذ إيران في المنطقة وإضعاف حزب الله، الذي يشكل أكبر تهديد عسكري على حدودها الشمالية.
أما سوريا، بحكم علاقتها الوثيقة بإيران، فتشكل جزءًا من هذا المحور ضمن معادلة معقدة، لهذا تحاول قوات الاحتلال من خلال الضربات الجوية منع إيران من بناء قاعدة عسكرية دائمة قرب الحدود الإسرائيلية في سوريا.
بشار الأسد بين المطرقة والسندان
بشار الأسد يدرك تماماً هذه اللعبة، فإسرائيل قادرة على إلحاق أضرار جسيمة بنظامه إذا قررت فتح جبهة جديدة في سوريا. هذا الفهم يعزز موقفه الحذر ويبرر صمته النسبي أمام التحركات الإسرائيلية.
اليوم، يتحكم نظام الأسد في حوالي 70% من الأراضي السورية، بعد أن كان قد فقد أكثر من نصفها خلال السنوات الأولى من الحرب. لكن جزءًا كبيرًا من هذه السيطرة مستمدة من دعم حلفائه الخارجيين، خاصة إيران وروسيا. وبالتالي، يخشى الأسد من أن يضعه أي تصعيد مع إسرائيل في موقف يهدد بقاءه السياسي في ضل ضعف القوات العسكرية.
إيران وروسيا صراع النفوذ
تتمتع روسيا بعلاقات جيدة مع إسرائيل، وقد سمحت بتوجيه ضربات محددة لمواقع إيرانية في سوريا، مما يضع الأسد في موقف صعب، و مضطرة لموازنة هذا التحالف مع موسكو، التي تسعى إلى ضبط النفوذ الإيراني في البلاد.
على المستوى الشعبي، يعاني الوجود الإيراني من عدم قبول واسع، خاصة بين الأغلبية السورية، بسبب التحالف الإيراني- مع الأقلية الحاكمة، لذا هناك شعورًا عامًا بأن إيران، عبر دعمها لنظام الأسد، تسعى لتغيير التركيبة السكانية في بعض المناطق عبر تهجير المناهضين لحكم بشار الأسد وجلب عائلات عناصر حزب الله والميليشيات الأخرى.
لطالما كان لبنان ساحة للصراعات الإقليمية، وغالبًا ما كانت سوريا تستخدمه كمنصة لضرب إسرائيل عبر حزب الله، هذا الوضع يتيح لسوريا الحفاظ على استقرارها الداخلي بينما تُدار الصراعات بالوكالة في الخارج، خاصة في لبنان، فدمشق، كما يقول المحللون، لطالما احتفظت بسيطرة غير مباشرة على لبنان، واستخدمته كخط إمداد لتسليح حزب الله عبر الأراضي السورية، هذا تماما ما تحاول تطبيقه على البلاد مع دمشق.