الصراع السوري خرج من كونه شأنا محليا وتحوّل إلى ساحة لتصفية الحسابات الإقليمية والدولية، لذلك من المستبعد أن يتمكن السوريون من العثور على مفتاح الصندوق الذي أغلقوه على أنفسهم.

بين زمن كتابة هذه السطور ونشرها سيكون الوضع الاقتصادي لسوريا قد تغيّر، وسط انهيار غير مسبوق لليرة السورية، تزامنا مع الذكرى العاشرة لانطلاق الانتفاضة الشعبية في العام 2011 التي تشهد المناطق الخارجة عن سيطرة الأسد احتفالات ومسيرات عارمة بمناسبتها، ترفع شعار “مليونيات من أجل الحرية”.

وقد يقول قائل كيف يعيش السوريون أيامهم هذه؟ وبينما يلفظ المواطن السوري أنفاسه الأخيرة بسبب الجوع، حسب صحيفة “تشرين” الرسمية، تنظّم في دمشق حملة شعبية برعاية رئيس الاتحاد الرياضي فراس معلا، المقرّب من رأس النظام، تحت عنوان “أطول رسالة حب ووفاء في العالم لرجل السلام الأول”، لجمع توقيعات تؤيد رئيس النظام بشار الأسد في الانتخابات الرئاسية القادمة، متجاهلة المطالب الدولية التي اعتبرت أن الانتخابات غير شرعية، وأنها لا تلتزم بقرار مجلس الأمن 2254 وتقفز فوق شرط الوصول إلى تسوية سياسية.

ويصف المروّجون لهذه الحملة مسيرتهم بالقول إنها “انطلقت إلى محافظة القنيطرة ومن ثم إلى درعا، فالسويداء ثم ريف دمشق وحمص وحماة وإدلب والرقة وحلب واللاذقية وطرطوس، ومن ثم العودة إلى دمشق في السابع من أبريل تزامنا مع الاحتفال بعيد ميلاد حزب البعث، بعد أن تكون حملت تواقيع مليونين ونصف مليون مواطن سوري في المحافظات، وأنه سيتم العمل على دخول الفعالية موسوعة غينيس”.

في أي سوريا يعيش هؤلاء وأولئك؟ ليست هذه هي المرة الأولى التي يتجاهل فيها مؤيدو الأسد ومعارضوه واقعهم المرير، فقد أوصل الأسد عهده إلى مرحلة من الهشاشة لا يحسده عليها أحد. كما أوصل الكثير من معارضيه بفضل سياسات ابتعدت عن الحنكة، أوضاع الثورة الشعبية إلى انسداد في الأفق وضياع للبوصلة. وعلى الضفتين، الحال يشبه الاحتضار الجماعي غير الواعي، فمن المستفيد من سوريا منهارة؟

سؤال سيبقى يلاحق الجميع، بعد أن يروا بأعينهم نتائج السياسات التي تم اختيارها للمضيّ بسوريا خارج سياقها، وخارج دورها الاستراتيجي، وبعيدا عن كيانها كوعاء وطني حاضن للملايين من المنتمين إلى هذه التابعية. وحين نقول الجميع، فإننا نشير أيضا إلى مجمل الأدوار السلبية التي لعبها الإقليم وبعض دول العالم العربي، أما ما يسمّى بالمجتمع الدولي، فلا ضرورة لبذل الكثير من العناء لاستحضار ما قاله وزير الخارجية السعودي الراحل الأمير سعود الفيصل في مؤتمر أصدقاء الشعب السوري الأول بتونس في فبراير 2012 قبل أن ينسحب من الجلسة “مؤتمركم هذا إن لم يعمل على إزاحة بشار الأسد، فإنكم ستكونون كمن يسمّن الذبيحة قبل نحرها، أنتم تشاركون في قتل الشعب السوري”.

كانت تلك مرحلة تسمين بالفعل وإغداق بالمساعدات والإغاثة، تلتها مرحلة تجويع تعرضت لها المناطق السورية المتمرّدة، حتى أكل الناس ورق الشجر في غوطة دمشق وحلب وحمص وغيرها، تحت حصار قوات الأسد وميليشيات إيران وحزب الله اللبناني التي طوّقت كل تلك المناطق. وحصار داخلي فرضته جبهة النصرة الإرهابية ونظرائها، قبل أن يشنّ الروس من السماء حصارا ناريا على الشمال والجنوب، مرادفا لحصار داعش وحزب العمال الكردستاني لعرب المحافظات الثلاث في الشرق دير الزور والرقة والحسكة، لتدور دائرة الجوع وتحيط بسكّان المناطق التي يسيطر عليها الأسد اليوم، لكن هل تغيّر شيء في مواقف السوريين؟ لم يتغيّر أي شيء.

يعتقد البعض أن السبب وراء إصرار معارضي الأسد على إزاحته بعد كل ما تعرّض له المدنيون في سوريا على يديه وبسبب خياراته المدمّرة لمعالجة الأوضاع، هو التزام منهم بموقف مبدئي. وقد يكون هذا صحيحا لدى الكثيرين منهم. لكن القلّة الفاعلة في المشهد لا تنطلق من هذا التوجّه. ومع الوقت أصبح رفض استمرار الأسد منهجا وقالبا ونمطا، وبات الخروج عن ذلك النمط يعني فقدان كل ما ترتّب عليه. والوقوف أمام الكاميرات بلا أي مشروع. لكن هل كان المشروع أساسا إزاحة الأسد وحسب، أم أن هناك برامج مستقبلية كان يجب أن ترسم دون انتظار إسقاط النظام؟ بالمقابل فإن رافضي التمرّد والثورة من السوريين الذين التصقوا بالأسد، لم يكن في تصوّرهم أن مهمتهم ستكون محصورة بالدفاع عن بقاء فرد واحد، بل كانت لديهم مخاوف من التغيير، وغلاف حيويّ آخر اعتادوا عليه بدورهم، وكان صعبا عليهم أن يخلعوه عنهم إلى المجهول.

هذا ما يجري على خشبة المسرح. لكن خلف ذلك، يبحث السوريون، في الكواليس وعلى الجانبين، عن مخرج من هذه الطريق المسدودة. الأسد يرفض قرارات مجلس الأمن وبيان جنيف الذي وقّعه حلفاؤه الروس مع الجانب الأميركي الذي يعاقب الأسد ويطالب بالحوار معه في الوقت ذاته. الروس الذين يبحثون عن مخرج هم أيضا يبتعدون عن داعمي الأسد الإيرانيين، وإيران تعرقل بدورها تطبيق القرارات الأممية التي تتمسك بها المعارضة السورية، كما تمسك الفلسطينيون بالقرار 242 ورفضوا تقسيم فلسطين، فصارت إسرائيل أكبر وأكثر قوة ونفوذا.

تطرح جهات مختلفة مشاريع مثل المجلس العسكري الذي يتوهّم البعض بأنه قادر على حكم سوريا. مجلس مشكل من قيادات عسكرية من الأطراف كافة بما فيها كبار ضباط النظام والعميد المنشق مناف طلاس وغيره. ويعود السوريون مرة جديدة إلى استنساخ التجارب التي شاهدوها في ليبيا ومصر خلال السنوات العشر الماضية، ولكن ليس تونس مع الأسف، فالمجلس العسكري المصري لم تؤسسه قوى خارجية، بل هو من عزل حسني مبارك ومن بعده محمد مرسي، والمجلس العسكري السوداني الذي لم تشكّله قوى غير سودانية هو من عزل عمر البشير، لكن تلك القوى راقبت الحدث المحلّي ولم تقف في وجه التغيير، ومن لا يعلم أن القوى الدولية القادرة على تشكيل مجلس عسكري سوري بديل لنظام الأسد، وبديل لقرار مجلس الأمن، تملك القدرة ذاتها على تأسيس هيئة حكم انتقالي مدنية وفق القرار ذاته؟

الصراع السوري، بفعل عدم إدراك السياسيين السوريين لقوة المبادرة الذاتية، خرج من كونه شأنا محليا منذ سنوات، وتحوّل إلى ساحة لتصفية الحسابات الإقليمية والدولية، وللمقايضة السياسية على ملفات أخرى. ولذلك من المستبعد أن يتمكن السوريون من العثور على مفتاح الصندوق الذي أغلقوه على أنفسهم إن لم يبحثوا عنه أولا.


إبراهيم الجبين – صحيفة العرب